منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

المهاجرون وصناعة نصر وحضارة الأمم

المهاجرون وصناعة نصر وحضارة الأمم/ الأستاذ ادريس قافو

0

المهاجرون وصناعة نصر وحضارة الأمم

بقلم: الأستاذ إدريس قافو

 

من دروس مونديال صراع القيم والحضارات قطر2022

في نصف النهاية لكاس العالم لكرة القدم في قطر2022، انتصرت فرنسا على المغرب، هذا في الظاهر، أما في الحقيقة، فالذي انتصر هو مجموعة من المهاجرين الأفارقة الحاملين للجنسية الفرنسية هاجروا أو هاجر آبائهم إلى فرنسا، ومعهم قلة من الفرنسيين، والدليل سَحْنَةُ الوجوه.

وحقق المنتخب المغربي، وأغلب أعضائه أبناء مهاجرين، إنجازا لافتا للأنظار عالميا، ليس على مستوى الأداء الرياضي فحسب بل على مستوى القيم التي أحياها في الأمة: (روح وحدة الأمة من جاكرتا إلى طنجة، ومركزية القضية الفلسطينية في وجدان الأمة، والروح الجماعية للفريق، والمستحيل ليس من ثقافتنا، وبر الوالدين، والسجود شكرا لله في النصر والهزيمة…)

هذه الملاحظة، مع ما يلاحظ من كون أغلب الناشطين من أبناء الحركة الإسلامية ليسوا من السكان (الأصليين) للبلدات التي ينشطون فيها (أي مهاجرين داخل الوطن نفسه)، وما يلاحظ من تغيُّر في سلوك كثير من الناس بمجرد تغيير وسطهم الاجتماعي ولو كانوا من ذوي السوابق الجنائية، تقود إلى البحث عن أثر الهجرة في سلوك الأفراد والجماعات في تاريخ الأمم، بل للبحث عن علاقة الهجرة بالمنعطفات الكبرى لتاريخ البشرية.

الهجرة في القرآن

في القرآن نجد قوله الله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)، و(من) كاسم موصول للعاقل قد يعود في القرآن على الأفراد كما قد تعود على الجماعات. ومُرَاغَمًا أيْ: مَهْرَبًا ومُضْطَرَبًا، يَكُونُ مَوْضِعًا لِلْمُراغَمَةِ، يُغضِب الأعداء به، ويُرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من حسن الحال. والمراغم مِن (الرَّغْمِ) وهو الذل والهوان وأصله: لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب. تقول: (راغمتَ فلانا)، أي: هجرتَه، وهو يكره مفارقتك، لذلة تلحقه بذلك ([1]).

ولما كان المَهجرُ قد يضيق بأهله والمهاجرين، وُصِفَ بالكثرة، فَقالَ ﴿كَثِيرًا﴾، ولما كانت المراغمة لذةً للروح، فكانت أعز من لذة البدن، قدمها ثم أتبعها قوله: ﴿وسعة﴾؛ أي: في الرزق.

من الآية الكريمة يمكن استنتاج أن الهجرة باب لسعة الرزق ولإرغام أنوف المضيِّقين على المهاجرين.

الهجرة في الحديث النبوي

وفي الحديث النبوي وردت قصة الرجل الذي قتل مائة نفس وذهب يبحث عن التوبة، وكان الحل الذي اقترحه عليه أحد العلماء هو أن يخرج من بلده إلى قرية فيها قوم صالحون فقال له: (انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء)، ([2]) فكانت بداية الحل المقترح عليه هي الهجرة من بلده، ثم دله على أناس آخرين ليعبد الله معهم، و(معهم) هذه تحتاج وقفةً وتنبيها إلى أهميتها، فعلماء الاجتماع يرون أن الروح الجماعية (effet de groupe) من أهم عوامل تغيير سلوك واتجاهات الإنسان ([3]) . والهجرة من مكان إلى آخر ما هي في الحقيقة إلا تغيير للمحيط الاجتماعي وقيَّمه وعاداته وقيوده، وتغيير لجماعة الرفاق والصحبة، فهي بذلك مناسبة لاستئناف الحياة بقناعات شخصية جديدة دون إكراهات العادات المجتمعية الجارفة.

الهجرة في التاريخ الإنساني

والمتتبع بإشارة الأصبع للمحطات الكبرى للتاريخ الإنساني، سيلاحظ أن (الرقي الإنساني أو المادي) مرتبط بالهجرة، بدأ بهجرة أبي المهاجرين؛ إبراهيم عليه السلام، الذي دشن الهجرة بقوله: (إني مهاجر إلى ربي﴾ أي: خارج من أرضي وعشيرتي على وجه الهَجر، وانتهاء إلى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.  فالكثير من الحضارات قامت بعد هجرات.

فقد قامت الحضارة الإسلامية، حضارة القيم والأخلاق ([4]) بعد الهجرة إلى المدينة وتشكيل نواة الأولى للدولة الإسلامية من المهاجرين والأنصار.

ومن المحللين من يرى أن الانطلاقة الأولى للحضارة الأوروبية؛ حضارة العلوم والصناعة كانت مع بداية النهضة في إيطاليا، تلك النهضة التي ساهم فيها عدد كبير من العلماء الذين فروا أو هاجروا إليها من القسطنطينية بعد سقوط الدولة البيزنطية سنة 1453 م.

أما (الحضارة الأمريكية) التي كانت امتدادا للحضارة الأوربية (الغربية) وقيمها، فإن فضل قيامها يعود إلى هجرة 34 مليون أوروبي ([5]) إلى أمريكا ما بين عامي 1821 م و1924 م.


([1]) – أنظر تفسير الآية عند البقاعي

([2]) – انظر القصة كاملة عند مسلم: صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وان كثر قتله، ر 2766، ج 4، ص 2118.

([3]) – انظر أبو النيل، محمود السيد: علم النفس الاجتماعي عربيا وعالميا، ص 364

([4]) – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ)، رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد

([5]) –هنتنكتون، صامويل: صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي، ص 318

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.