منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

(7) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري ـ الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) ـ

الدكتور مصطفى العلام

0

(7) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب

من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري
 –الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) ـ

الدكتور مصطفى العلام

 

بعد أن ساد المنهج العقلي البحت في الرد على أهل الكتاب في المرحلة الممتدة من القرن الثاني إلى القرن الرابع الهجري، وكان أغلب روادها من المعتزلة، جاءت هذه المرحلة لتشهد تحولا كبيرا في منهج علماء المسلمين في الرد أهل الكتاب. ولعل أبرز سمات هذا التحول الكبير هو مناقشة ونقد نصوص الكتاب المقدس للاستدلال على عقائدهم ومبادئهم، وسادت نغمة تقوم على تحليل النصوص والموازنة بينها ونقدها نقدا علميا سديدا.

ويكمن سر هذا التحول الكبير في نوعية مؤلفي كتب الجدل في هذه الفترة، إذ لم تعد الدائرة تكاد تكون مقصورة على رجال الاعتزال خاصة وعلم الكلام والفلسفة عامة ـ كما رأينا ـ وإنما انضم إليهم كثير من الفقهاء والأصوليين والمفسرين. ويعتبر الإمام ‘ابن حزم الأندلسي’ هو النجم الأول لهذه الفترة وهذا المنهج بلا منازع، إذ أن ما قام به من جهود علمية نقدية في كتابه القيم” الفصل في الملل والأهواء والنحل” كان مشعل الهداية والأساس المتين لمعظم من جاء بعده، فعلى منواله نسجوا وفي دربه ساروا. وفيما يلي أذكر بأهم رواد هذه المرحلة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري ملتزما – كما هو الحال في الحلقات السابقة- بالترتيب التاريخي لوفاة المؤلفين:

ـ التعريف بالإمام ابن حزم الأندلسي ت 456 هـ: [1]

هو الإمام الجليل أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، ولد بقرطبة سنة أربع وئمانين وثلاثمائة للهجرة النبوية المباركة، ونشأ في نعمة ورفاهية حيث كان أبوه وزيرا، كما تولى هو أيضا الوزارة في شبابه، نبغ في الأدب والأخبار والشعر والمنطق والفلسفة والفقه، دعى إلى نفي القياس كله والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والسنة . تتضح عبقرية ‘ابن حزم’ وموسوعيته من خلال ثناء العلماء عليه ومن خلال قائمة مؤلفاته أيضا:

ثناء العلماء عليه: يقول حجة الإسلام ‘أبو حامد الغزالي’: وجدت في أسماء الله تعالى كتابا ألفه أبو محمد ابن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه، وقال ‘أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي’: كان ‘ابن حزم’ أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار، وقال’ أبو عبدالله الحميدي ‘: كان ‘ابن حزم’ حافظا للحديث وفقهه، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنة،متفننا في علوم جمة، عاملا بعلمه ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسعة الحفظ وكرم النفس والتدين … الخ.

ـ تعرضه للمحن: تعرض في حياته لمحن كثيرة وحرقت كتبه في عهد ‘المعتضد’؛ وذلك لتأليب وتحريض الفقهاء عليه، وربما يكون سبب ذلك ما اشتهر به من حدة لسانه وقسـوته على بعض الأئمة.فعلى الرغم من حدة خطابه النقدي الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى العنف القولي وسلاطة اللسان إلا أن هذا الخطاب النقدي عند ‘ابن حزم ‘ـ وكما يراه ‘عدنان المقراني ‘ ـ قد تميز بخصائص منها«الصرامة المنهجية والانطلاق من منظومة فكرية واعية بذاتها وبمحيطها وبأسسها المعرفية. وهو نقد يتوجه مباشرة إلى الأسس التي سمحت بصدور الأفكار والمعتقدات، فلا يكتفي بنقدها من الخارج. هذا ‘الحفر’ عن الأسس والآليات المعرفية هو الذي وسم نقد ‘ابن حزم’ للأديان بشيء من العمق» [2].

ـ كثرة وتنوع مؤلفاته: أما قائمة مؤلفاته التي تصل – كما يقول ‘ياقوت الحموي’ في معجم الأدباء – إلى أربعمائة مجلد فهي متنوعة، في الفقه والحديث والأصول والتاريخ والأدب والأنساب والرد على المخالفين من أهل الأديان والملل والنحل والأهواء، وأكثرها شهرة كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، وكتاب (الخصال الحافظ لمجمل شرائع الإسلام )، وشرحه المسمى( الإيصال إلى فهم كتاب الخصال)، الذي جمع فيه أقوال الصحابة ومن بعدهم وحجة كل قول، في خمس عشرة ألف ورقة كما قال ‘الذهبي’ في سير أعلام النبلاء، و’لابن حزم’ أيضا في الفقه كتاب (المحلَّى)، وشرحه المسمى (المحلَّى)، وفي السيرة النبوية كتاب (جوامع السيرة النبوية)، وفي التاريخ ( نقط العروس في تواريخ الخلفاء)، وفي الأدب ( طرق الحمامة )، وفي الحديث (ا الإملاء في شرح الموطأ)، وعدة كتب في الأصول وفي علوم القرآن، ومجموعة كتب في الطب والأدوية…

إن هذه الكثرة والتنوع في التأليف ليدل دلالة واضحة على عقلية ونبوغ فريدين لهذا الإمام الجليل الذي وافته المنية لليلتين بقيتا من شهر شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة للهجرة، فكان عمره إحدى وسبعين سنة وأشهرا، رحمه الله رحمة واسعة.

ولم تصلنا حتى الآن كل مؤلفات ‘ابن حزم الأندلسي’، لكن ما وصلنا وثم طبعه أو تحقيقه يكفي لحد كبير للدلالة على مكانته العلمية، واستخلاص أصول مذهبه وقواعد منهجه في الرد على أهل الكتاب.

ـ كان محط اهتمام العلماء والباحثين الغربيين كذلك: وتجدر الإشارة أن ‘ابن حزم’ لم يكن محط اهتمام الباحثين المسلمين فحسب، بل تعدى ذلك إلى الباحثين الغربيين عموما والمستشرقين على وجه الخصوص بداية من القرن العشرين، حيث يرى ‘د.حامد طاهر’ أن «أهم ثلاث دراسات أوربية تتمحور حول ‘ابن حزم’ كانت: دراسة ‘جولد تسهير’ بالألمانية سنة 1884م، ودراسة ‘آسين بلاتيوس’ بالإسبانية سنة 1929م، ودراسة ‘روجر أرنالديز’ بالفرنسية سنة 1956م. وهي كلها لم تترجم حتى الآن إلى اللغة العربية»[3].

ومن ثناء العلماء الغربيين عن’ ابن حزم’ وكتابه’الفصل’ إعجابا وتقديرا له «شهادة ‘بروكلمان’ في كتابه الفصل يقول فيها” إنه مؤلف ديني تاريخي لم يسبق إلى مثله في الأدب العالمي”. ويقول عالم غربي آخر “إن ابن حزم كرم في الغرب باعتباره مؤسسا لعلم مقارنة الأديان” ».[4]

كتابه: “الفصل في الملل والأهواء والنحل”[5]

ـ الاختلاف حول اسم الكتاب بين من يقول ‘الفِصَل ‘ ومن يقول ‘الفَصْل’: بداية وقع الاختلاف حول اسم الكتاب: فالمشهور على ألسنة الباحثين أنه الفِصَل، بكسر الفاء وفتح الصاد، لكن بعض الباحثين الآخرين يؤكدون أن عنوان الكتاب الذي بين أيدينا هو الفَصْل، بفتح الفاء وسكون الصاد. ولتفصيل هذا الاختلاف بين الباحثين، نستشهد بما قاله الأستاذ ‘ عبد الرحمن خليفة’ الذي قام بتصحيح كتاب ” الفصل ” في طبعة مكتبة السلام العالمية بالقاهرة ” خمسة أجزاء في مجلد واحد، مطبوعا بهامشها كتاب الملل والنحل ‘للشهرستاني’ – بدون تاريخ. وقد ثارت لدى الأستاذ ‘ عبد الرحمن خليفة’ تساؤلات حول حقيقة كتاب ابن حزم، هل هو ا الفِصَل بكسر الفاء وفتح الصاد – وهذا هو المشهور بين الباحثين – أم أنه ” الفَصْل، بفتح الفاء وسكون الصاد ؟ فيقول[6]:

والذين يؤيدون الضبط الأول يقولون: أن الفِصَل، بكسر الفاء ففتح جمع ‘ فَصْلة’، بفتح فسكون، وهي الفسيلة من النخل المحولة من منبتها، ولكن الأستاذ ‘ عبد الرحمن خليفة’ يذكر أنه عاد إلى كتب اللغة (كلسان العرب) وكتاب (سبويه) وكتب أخرى في علم الصرف فلم يجد “فَعْلَة”، بفتح فسكون فتجمع على ” فِعَل” بكسر ففتح، إلا سماعا “كبَضْعَة وبِضَع”، و “بَدْرَة وبِدَر”، وقالوا في قصع، ونظائره: أنه مخفف عن قِصَاع، وأن ‘فعال’، هو الجمع القياسي ‘لفعلة’.

 ويؤكد المصحح أنه حاول العثور على ” فِصَل”، مسموعا بهذا الجمع فلم يجد بعد طول بحث، فوقع في ظنه أن المفرد قد يكون ” فِصْلَة”، بكسر فسكون وقياس الجمع فيه ” فِصَل” ك “قِطْعَة وقِطَع” وكِسْرَة وكِسَر”، فبحث عن جمع في هذا الوزن يطَّرِد في كل ما فُصِل عن الشيء وبقي أصله فلم يعثر، فاستقر رأيه على أن كتاب ‘ابن حزم ‘هو الفَصْل، بفتح فسكون، مفرد وليس جمعا.

ـ مضامين الكتاب: يعد هذا الكتاب – بحق – موسوعة رائعة في مجاله، تدل على عبقرية ابن حزم وعقليته الفذة، وفكره الثاقب . أما فيما يختص بالرد على أهل الكتاب ـ وهو الذي يعنينا في هذا المقام ـ فقد تعرض ابن حزم للحديث عن اليهود والنصارى في ثلاثة مواضع:

 الموضع الأول(1 /64: 81): عرض في هذا الموضع، وفي حوالي ثماني عشرة صحيفة،عقائد النصارى وفرقهم المشهورة، مفندا بأدلة عقلية مزاعمهم في تأليه المسيح، وتجسد الإله، واتحاده بعيسى والتثليث، والصلب، والفداء … الخ. وقد أفرد ‘ابن حزم’ في هذا الموضع أيضا حيزا كبيرا لمناقشة وتفنيد ما يزعمه النصارى من أن أخبارهم – في التأليه والصلب وغيرها – منقولة نقلا متواترا فلا يصح إنكارها، ولأن إنكار التواتر في هذه الأخبار هو إنكار في حد ذاته للتواتر الذي يعتمد عليه المسلمون في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن عليه من عند الله تعالى. وقد بين ‘ابن حزم’ تهافت أقوالهم في التواتر، ملزما إياهم الحجة من خلال نصوص أناجيلهم بطريقة لها دلالتها القوية على ملكته الجدلية من ناحية وحسن اطلاعه على الأناجيل من ناحية أخرى.

ومما يدل على حرارة الإيمان ورهافة الحس عند ‘ابن حزم ‘ يقول في هذا الموضع: « ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه – إذ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ المائدة:72 . وإذ يقول تعالى حاكيا عنهم: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ المائدة:73، وإذ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ المائدة:116، لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف، وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلا يسع هذا الجنون، ونعوذ بالله من الخذلان »[7].

الموضع الثاني(1/117ـ 138): خصصه ‘ابن حزم’ للكلام على اليهود، وعلى من أنكر التثليث من النصارى، ومذهب الصابئين، وعلى من أقر بنبوة ‘زرادشت’ من المجوس وأنكر من سواه من الأنبياء عليهم السلام. بدأ هذا الموضع بذكر فرق اليهود وآرائهم، ثم أفاض في الحديث عن النسخ وإنكار اليهود له (فريق منهم يراه مستحيلا، وفريق آخر يرى إمكان وقوعه إلا أنه لم يقع فعلا)، وقد أورد نصوصا عدة تثبت النسخ فيما يسمونه التوراة. ثم تحدث عن إنكار اليهود والنصارى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، داحضا كل الشبه التي يثيرونها، مستدلا ببعض المعجزات الدالة على نبوته، ومتبعا إياها ببعض البشارات الثابتة لها في العهد القديم، وبشارة واحدة في العهد الجديد.

الموضع الثالث(1/138ـ 344): وضع ‘ابن حزم’ الأساس له في فصل كبير يدل عنوانه على مضمونه، فقد جعله تحت عنوان: ” فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة في الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة وفي سائر كتبهم،و في الأناجيل الأربعة “،ليخلص بذلك إلى القول بتحريفها وتبديلها و أنها غير الذي أنزله الله تعالى.

ثم بعد ذلك يأخذ ‘ابن حزم’ على نفسه تعهدا أمام قارئ كتابه يدل على الثقة اللامتناهية فيقول: «وليعلم كل من قرأ كتابنا هذا أننا لم نُخْرِج من الكتب المذكورة شيئا يمكن أن يُخَرَّج على وجه ما وإن ذَقَّ وَبعُد، فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له، وكذلك أيضا لم نُخْرِج منها[8] » [9].

ـ التركيز على نقد الأسفار الخمسة: وقد ركز ‘ابن حزم’ على الأسفار الخمسة التي يسميها اليهود التوراة، فاستخرج منها ما يزيد على ثمانين موضعا صوَّب إليها سهام نقده اللاذع، ونصفها تقريبا في السفر الأول وهو سفر التكوين. وقد تنوع نقد ‘ابن حزم’ للنصوص التوراتية كالآتي: فمنه ما يتصل بالتناقض الواقع بين نصوص الأسفار الخمسة – بل أحيانا داخل السفر الواحد، وأحيانا قليلة في كلمات الفقرة الواحدة – ومنه ما هو خطأ شنيع في الحساب، ومنه ما هو أخبار ونبوآت وعهود يكذبها الواقع، ومنه ما لا يليق بجلال الألوهية وعصمة وكمال الأنبياء – عليهم السلام – …. الخ.

أما المنهج الذي سلكه في نقده للنصوص التوراتية، فقد سار مع النص وترتيب الأسفار حيث سار، فنجده في فقرة ينتقد خطأ تاريخيا أو حسابيا، وفي التي تليها يستنكر نسبة الزنا أو الغش إلى نبي من الأنبياء، ثم يوضح التناقض بين عدة نصوص في فقرة تالية، وهكذا، ملتزما بالسياق دونما ترتيب للموضوعات . ولكن هذا لا يقدح في عمل ‘ابن حزم’ وجهده العظيم، فالرجل اختار لنفسه منهجا والتزم به في الرد على أهل الكتاب.

ـ نماذج من منهج ‘ابن حزم’ في نقد للتوراة: كما أن منهج ‘ابن حزم’ هذا كان فعالا ومتميزا في إفحام خصومه، وسد جميع المنافذ وإغلاق كافة، فلم يدع فرصة للنجاة ولا وسيلة للإفلات، وكتابه ملئ بعدة نماذج دالة على ذلك، وسأكتفي بأنموذج واحد وهو: ماورد في سفر التكوين( 32 /22:31 )من خبر مصارعة يعقوب مع الله وانتصار يعقوب.

 تعقيب ابن حزم: فبعد أن بين استحالة هذا الهراء والسخف، يقول: «ولقد ضربت بهذا الفصل وجوه المعترضين منهم للجدال في كل محفل، فثبتوا على نص التوراة أن يعقوب صارع ‘ألوهيم’، وقال ابن لفظة ‘ألوهيم’، يعبر بها عن المَلَك فإنما صارع يعقوب ملكا من الملائكة. فقلت لهم: سياق الكلام يبطل ما تقولون، ضرورة أن فيه: “كنت قويا على الله فكيف على الناس ؟ وفيه أن يعقوب، قال: رأيت الله مواجهة وسلِمَت نفسي، ولا يمكن البتة أن يعجب من سلامة نفسه إذا رأى الملك ولا يبلغ من مس الملك – كما نص يعقوب – أن يُحَرَّم على بني إسرائيل أكل عروق الفخذ إلى الأبد من أجل ذلك، وفيه: أنه سمى ذلك الموضع فينيئيل لأنه قابل فيه إيل، وهو الله بلا احتمال عندكم. ثم لو كان ملكا – كما تدعون عند المناظرة – لكان أيضا من الخطأ تصارع نبي وملك لغير معنى، فهذه صفة المتحدين في العنصر لا صفة الملائكة والأنبياء.

فإن قيل: قد رويتم أن نبيكم صارع ” ركانة بن عبد يزيد” [10]،قلنا: نعم لأن ‘ركانة’، كان من القوة بحيث لا يجد أحدا يقاومه في جزيرة العرب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موصوفا بالقوة الزائدة، فدعاه إلى الإسلام، فقال له: إن صرعتني آمنت بك، ورأى أن هذا من المعجزات، فأمره بالتأهب لذلك، ثم صرعه للوقت وأسلم ‘ركانة’ بعد مدة، فبين الأمرين فرق، كما بين العقل والحمق، ولكل مقام مقال . ولكن إذا أكل الملائكة عندكم كِسَر الخبز حتى تشتد به قلوبهم، والشواء واللبن والسمن والفطائر، فما ينكر (ميل ) بعضهم للصراع مع الناس في الطرقات وهذه مصائب شاهدة بضلالهم وخذلانهم وصحة اليقين بأن توراتهم مبدلة»[11] .

كما تتجلى روعة ‘ابن حزم’ أيضا في ذهنه المتوقد وذاكرته الفولاذية وبصيرته النافذة، فتراه يربط نصا في سفر التكوين بنص آخر هناك في سفر أخبار الأيام أو في سفر إشعيا . كما أنه كان دقيقا في حساباته التي يستنبطها من النصوص نفسها، ويبني آراءه وحساباته على أحسن الفروض بالنسبة للخصم وأسوئها بالنسبة للناقد، رغبة في الإفحام التام للخصم وعدم ترك ثغرة له .. وأبرز الأمثلة على ذلك: « حساباته الدقيقة لبيان كذب النص التوراتي في أن مدة إقامة بني إسرائيل بمصر أربعمائة وثلاثين سنة »[12]، وأيضا «حساباته الدقيقة في نقد ما في سفر التكوين( 46 /12 – 13 )، من أن من بين الداخلين إلى مصر مع يعقوب: ‘حصرون’ و’حامول’ ابني ‘فارص بن يهوذا’، لكن’ ابن حزم ‘ أجرى عملية حسابية مستنبطة من النصوص المختلفة تثبت أن ‘فارص بن يهوذا ‘كان عمره عند دخوله مصر ثماني سنوات، فكيف يكون له ولدان يُحْسَبان من جملة الداخلين من بيت يعقوب إلى مصر وغير ذلك من القضايا التي ناقشها ابن حزم بطريقة علمية عقلانية رائعة »[13].

ـ خصائص منهج ابن حزم في الرد على أهل الكتاب: أما منهج ابن حزم في الرد على أهل الكتاب فإن ‘ حسن الباش’ استخلص خصائص كما يلي: [14]

1ـ يتناول كل القضايا المفصلية في التوراة والإنجيل

2ـ يقارن بين كتب التوراة الثلاثة السامرية والعبرية والسبعينية، ثم يقارن ماجاء فيها من الآيات القرآنية الكريمة.

3ـ يغلب عليه الطابع الفلسفي المنطقي حيث قرع الحجة بالحجة والبرهان.

4ـ يقترب أحيانا من مقارنة النص بالنص.

5ـ يستفيد من علم اللغة والتاريخ وعلم منطق الكلام.

6ـ يدل منهجه على ثقافة واسعة متعمقة لكتاب التوراة وكذلك لكتاب الإنجيل ويظهر أنه غاص في أعماق الكتابين، وهذا ما جعل مناقشاته تُقنع العقل قبل النفس.

ويمكننا القول أن’ ابن حزم’ درس الأسفار الخمسة دراسة وثائقية، وحللها تحليلا نقديا منهجيا مستخدما الاستقراء التاريخي بشكل دقيق. وقد استهدف بهذا الاستقراء فحص الظروف العامة والملابسات الخاصة التي أحاطت بكتابة هذه الأسفار، وحفظها ونقلها. ثم بعد ذلك درس دراسة نقدية نص هذه الأسفار ليعرف واقع هذا المتن، ليصل إلى الحكم على هذا النص وفحص محتواه. ومن هذا المنطلق تشكل منهج ‘ابن حزم ‘ التحليلي من النقد الخارجي و بحث السند والرواية.

و في الأخير، لا يملك من يطالع كتاب ( الفصل في الملل والأهواء والنحل) إلا أن يعبر عن عميق احترامه وبالغ تقديره لهذا العالم والناقد، حيث أن أفكاره وملاحظاته التي صالت وجالت في أرجاء الكتاب المقدس، فاحصة ناقدة بوعي وتمكن لا نظير لهما، مما يجعل ابن حزم – دون أي مبالغة – «رائد الدراسات النقدية ليس على مستوى المفكرين المسلمين فحسب، بل على مستوى الفكر الإنساني »[15] .


الهوامش

[1]تراجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ) 18 /184: 212 – ) تذكرة الحفاظ له –أيضا (3/1146-1155) لسان الميزان(4/ 198-202) طبقات الأمم لصاعد بن أحمد الأندلسي( ص:86). البداية والنهاية لابن كثير( 12 /91-92 ). معجم الأدباء لياقوت الحموي( 12/235-257). وفيات الأعيان لابن خلكان(3/325-330).

[2] نقد الأديان عند ابن حزم الأندلسي: عدنان المقراني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ هرندن ـ فرجينيا ـ الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1429هـ/2008م، ص:23.

[3] بحث ل’ د.حامد طاهر’ تحت عنوان: منهج النقد التاريخي عند ابن حزم نموذج نقد توراة اليهود، مكتبة المهتدين الإسلامية لمقارنة الأديان، ص: 4

[4] ابن حزم ومنهجه في دراسة الأديان: د.محمود علي حمادة، دار المعارف، ط1، 1983م، ص:11

[5] الفصل في الملل والأهواء والنحل، الإمام أبومحمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي(ت:456هـ)، دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط1،1416هـ/1996م.

[6] جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري ـ عرض ونقد ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’: ص: 85-86

[7] الفصل1/ .66-65

[8] في الأصل منه وليس منها. ..

[9] الفصل 1/39، ويراجع أيضا ص: 170-171.

[10] حديث أخرجه أبو داود: كتاب: اللباس باب: في العمائم 4 /55 ( رقم 078 4) -والترمذي كتاب: اللباس باب: العمائم على القلانىس 4 /247 – 248 ( رقم 1784)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولامن ركانة.

[11] ـ الفصل، ص: 168-169

[12] ـ المرجع نفسه 1/149-153

[13] المرجع نفسه 1/174-175

[14] ـ علم مقارنة الأديان أصوله ومناهجه ومساهمة علماء المسلمين والغرب في تأصيله:د. حسن الباش، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق سوريا ـ ط1، 1432هـ/2011م، ص:46-47.

[15] هذه العبارة للمؤرخ الفرنسي ‘لابوليه’ ، ينظر: منهج نقد النص بين ابن حزم الأندلسي واسبينوزا، د / محمد عبد الله الشرقاوي – مكتبة دار العلوم – جامعة القاهرة ص: 19، طبعة خاصة بالمؤلف، د . ق . ت .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.