مشاعر الفؤاد بين مهاوي العصيان و مرافع الإيمان
مشاعر الفؤاد بين مهاوي العصيان و مرافع الإيمان/ مجيد الحداد
مشاعر الفؤاد بين مهاوي العصيان و مرافع الإيمان
بقلم: مجيد الحداد
ليس من بواعث الفضول الفكري أن نلقي بالاً لقضية مشاعر الإنسان ونحاكم صدقها من طيشها واعتلاءها من سقوطها بحجة أننا كلفنا بأن نحكم على الظواهر والله يتولى السرائر، بيد أنها قضية حين نقاربها من الناحية العقدية التصورية وتعلقاتها المظهرية الأخلاقية لتبرز لكل متبصر في عالم اليوم الذي نأى كثيرا عن الهموم والأماني الرئيسة وارتباطاتها بمقصدية وجود الإنسان في الحياة. ولأن مشاعرنا اليوم لا تصنع على عين الهدى المبين ولا ينظمها عقد متين لزم أن لا نعرض عن هذا الأمر حتى وإن كان البحث فيه مغامرة قد لا تكون محمودة العواقب مادام علم ” الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً “ (الإسراء : 85)، وخاصة إذا لم يتحصن الدارس لها بآيات التنزيل، ولكنه أمر لابد حاصل والتفكر في هذه الموضوعات حتمي لدى الإنسان خاصة بعد رهافة وعيه، وما لا يدرك جله لا يترك كله. وهذا جهد مقل نابع من هم متأصل وقلق على مصير الإنسان بلا رشد في ركب الزمان.
دين الإسلام منظومة متكاملة للحياة الآدمية، نظام للمال وللسياسة وللأسرة… وقبل هذا كله فهو عقيدة و شريعة للنفس والروح وتعلقات الفؤاد، وعقيدة التوحيد التي عليها مدار نظام الإسلام عقد ناظم لتعلقات الفؤاد ومحتكم لتصاريف مواجيده، ومربط لهفواته وطيشه، حتى تستقيم مشاعر المسلم وتتجه نحو بغية ربانية راشدة، وتتوافق مع أدوار الإنسان في الحياة الدنيا وتتطابق مع غاياته في الدار الآخرة.
مركزية المشاعر في الوجود الآدمي
قلب الإنسان مستودع المشاعر ومصنع الأشجان، بها ينبض كيانه وعبرها يختار وضعه في الحياة، أتراه يكون شقيا كظيما يخيم عليه الهم والجزع، أم يــــكون سعيدا مستبشرا لا تبرح البهـجة تفــارق محياه؛ فمدار مشــــاعر الآدمي عــلى الحزن والفـرح، والضيق والبهجة، والضنك والسرور … وغيرها من خلجات الفؤاد المتقابلات التي لابد أن يجد منها الآدمي شيئا؛ إذ لا معقولية لوجوده ولا محرك لأفعاله ومسير لقراراته ومطامعه دون أن تنشأ لديه مشاعر هي جزء من تفرده وسر تشريفه، وعلى قدر تحركاته في الحياة تربو عنده، وكذلك يتفاعل الإنسان بكل جوارحه إلى أن يسلم الروح لبائها، وما من مخلوق مدركٍ إلا له حظ من ذلك، وإن رؤي جلفا غليظ الطباع لا يحكي مظهره تفاصيل مخبره، فكيف بالعاطفي الرقيق الذي يميل كالغصن الفتي مع كل شعور وتحكي تقاسيم وجهه كل مستور، و من منا يا ترى لا يحزن ويشقى حين يأذن قلبه بذلك، أو يفرح ويسعد حين يجد أسباب ذلك، لكل هذا أولى دين الإسلام عناية بالقلوب وأدوائها، وجعل صلاح الأجساد بصلاحها، ونزلت آيات القرآن لتطييب النفوس بتهذيب أخلاقها، وجذبها لبغيتها التي لها لزم أن تسعد أو أن تشقى، وكان من مقاصد التنزيل الجامعة إحياء وظيفة الروح في الآدمي، وإشعال فتيل التفكر والتدبر بغية الهداية والرشاد.
مشاعر الفؤاد من آيات الله الباهرة في خلقه الواسع المركب؛ فلا يعرف مثلا طعم الفرح إلا من خبر معالم الحزن وذاق جرعة ضيم و من لا يحزن فترات في دنياه وما الدنيا إلا أحزان وأتعاب جمعت و كدّست، وكيف لا يأتيك فيها الحزن وأنت مفتقر للنعيم المطلق الأبدي وعابر فيها زاهد وللعلياء قاصد؛ ومن جرب الحزن وخبره حتما سوف يرجو زواله ويطمع في عاقبته وهو الفرح والحياة الطيبة التي أعدها الله لعباده المتقين، والحزن صبر والصبر عنوان المثل والفرح شكر والشكر شميلة الكمل، وفؤاد التقي ينشئ مشاعره بجوار هاتين المنزلتين العظيمتين أما الغافل الجاحد فلا عجب أن يسكنه الحزن ويملأ الضيم سويداء قلبه لأنه لم يشق سبيل الفرح أصلا واكتفى بمشاعر عابرة خادعة. إذن هي مشاعر ومواجيد متأصلة في قلب كل آدمي لزم أن تحظى بحيز من الاستبصار والتأمل في نوازعها ومسبباتها.
الأصل أن معابر الحزن إلى فؤاد المسلم الموحد ضيقة، ومنافذها إليه غير فسحة، والحق أن المؤمن الذي لا يبرحه الفرح إلى لقاء ربه وجب أن لا يعرف الحزن طريقا إلى قلبه، وإن وجد شيئا من الضيم فمن انتكاسة قلبه وتعلقه بغير خالقه وبارئه جل شأنه.
عقيدة التوحيد عقد ناظم لتعلقات الفؤاد
من مستلزمات التوحيد أن لا يتعلق القلب إلا بمحبوب أزلي واحد منه يعقل القلب مشاعره ويصرفها نحو وجهتها الربانية، ويتعذر عليه أن يتسع لحبين متناقضين، كما يشق عليه أن ينسج مواجيد طائشة لا تشده إلى محبوبه الأول، ومن وجد شيئا في قلبه من التجاذب بين محبوبين عدويين ذاق الوليات ونال الدركات. إن توحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله منشأ الصفاء وتخليص للقلب من كل شوشرة وبهرجة، ودواء له من التباريح التي يجدها حين يضل وجهته، والشرك الخفي اضطراب في تصاريف الفؤاد و سبب لكل المآسي والأحزان، فأن يكون الحزن على تفويت محبوب عارض هو عين الهلاك، وكم شقيت أمم بسبب عدم معرفتها بمحبوبها الأعظم، وحين يلقى الفؤاد محبوبه الأزلي في تحركات أنفاسه يبتهج و يسعد.
حين ينتظم الوجدان مع نفائس التوحيد لا يستثير الفؤاد المشاعر الكاذبة الزائفة مهما أوتيت من سحر وتأثير وكيف لها أن تربك صفاء الفؤاد المتأله لعالم الغيب الرحب بأن تزيح همومه الفضلى وتورده هموما هو عنها ينفر ولمواجيده المعقودة على الإيمان يظفر، أما القلوب المريضة الثكلى لأنفس مواجيدها فتموج مع الأمواج تفرح لشيء زهيد وتحزن لكل سفيه لا يستثير الحزن و لا ينهض حتى أن يكون قضية؛ قد تبكي وتضحك، وقد تئن وتمرح في آن واحد ما دام نظامها قد اختل وقانونها قد اعتل، وتراها حين الحزم والعزم فلا تجد لها عزما ولا إصرارا.
لا تتفهم أشواق الروح الحقة إلا حين تصلها بعالمها الغيبي وتذكرها بين الفينة والأخرى بعودتها الحتمية وقرارها المكين، وحين تنغمس بها في عالم المواد متناسيا عودتها لعالمها الأبدي ومعرضا عن نوازعها للخلد فيه، وغير متفهم لنفورها الدائم مما تراه من مواد بئيسة، حينها تذيقها من الأوجاع الجسام معتقدا أنك تبحث لها عن البهجة التي لا تزيدها إلا ضيقا واختناقا. ومن مستلزمات الإيمان بقضاء الله وقدره الحاكم، ومن داوعي التسليم لمشيئته الغالبة واليقين بتصريفه الجاري على كل الخلائق و المقادير في هذا الكون الذي خلقه ودبره وأحكمه …؛ أن لا تحزن على أمر كنت ترجو حصوله ولا تجزع على مصاب بك نازل، أو تترقب مصيبة بك سوف تحل، لأن كل ما تخاله يجري فهو يجري وفق سنن المقادير التي قدرها العزيز المقتدر الذي عليها قادر وأنت لست بقادر ولب الإخلاص وعين اليقين و مؤشر الصدق في التوجه إليه جل شأنه؛ أن تقابل كل ما جرى ويجري من حوادث وفي كل الدقائق بصبر وثبات وروية، لأن ما أصابك ما كان ليخطئك وما فاتك ما كان ليصيبك، لله المقادير وللعبد الخانع الرجاء والتصبر.
إن ركامات الرزايا والأحزان حين تجتمع و تتكدس في جوف الإنسان تخنق الأنفاس وتنحر الأفراس، و لا يجرفها – صدقا – إلا الأنس بالله واستحضار معيته، منه يتزود المؤمن بذخائر الأنوار المبيدة لكل العتمات، فيا لبؤس من ضاقت عليه معابر العبور إليه وسط زقاقات الحياة !، وكيف تضيق تلك المعابر وفي ساحة السجود متسع وقرار ولفظ لكل الأوجاع !؟.
القرآن الكريم معراج الروح وملهم الأشجان
القرآن الكريم مشرحة الروح وآياته مقاريض للأدران التي علقت بها، لزمها أن تروح إليه عند كل خطب وفي كل شأن تلقاه، ولزمها بين الأحيان أن تُنقع بعد التشريح في حوضه الفياض فهو بلسم جروحها وميضأة أدرانها، وحين تتلقاه لأول وهلة تجده ينفذ بيسر إلى عمقها ويبدأ يعرج بها حيث تلقى مرتعها ومتسعها، وإن قوة التلقي للقرآن والتي كانت لدى الجيل القرآني الأول، مؤذنة بوفرة المكاسب التي تحظى بها الأفئدة بعد أن كانت خربة، فحين يتلو الإنسان القرآن بقلب متبصر يجد وظائفه مجتمعة حول الارتقاء بالروح، فهو رحلة شيقة بين العوالم والأكوان يأخذك إلى الماضي السحيق ويقفز بك إلى المستقبل البعيد و يغوص بالآدمي إلى أعماق النفس وخبايا الوجدان.
بالقرآن الكريم يجد الإنسان مرتعا لتصريف كل مشاعره؛ فبآياته يسعد بعد أن جرب الشقاء، وحين يحزن يفرح بالقرآن، وحين يفرح ويقرأ القرآن ينتظم فرحه ولا يطيش، ولما يكون وحيدا ويلقاه القرآن مستوحشا يؤنسه ويذهب غربته، ويكون مكتئبا ضيق النفس مفتقرا معدوما فتتلقى روحه روح القرآن فينشط وتنتظم أنفاسه ويستكثر ببركات الآيات الخيرات، بالقرآن الكريم تجد الروح كل البشائر و يبتهج الفؤاد بطيب المشاعر، وحياة الروح بلا قرآن سماء مظلمة وبيداء مقفرة.
لقد خلق الله المشاعر في الإنسان وهي متفلتة متقلبة مع الأحوال والأجواء ولا تشدها وتحكمها حقا إلا حين تقرئها القرآن الكريم؛ ففي آياته تجد السكن والقرار كيف لا والقرآن غيب وروح يخاطب هموم الأرواح ويذب فيها الحياة التي تتفتق بعدها في كل تجاويف الوجود الإنساني، ولقد جاءت آيات تخبرنا بأحزان وأفراح حتى نطلع على حقيقتها، كحزن يعقوب عليه السلام الذي كان مدار لقصة يوسف عليه السلام، وأحزان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحزن أم موسى عليه السلام … وجاءت آيات تعلمنا بأصل الفرح وأنه مبتغى كل فؤاد.
إن الوحي سراج تستنير به مواجيد فؤاد الآدمي فيجد بعد أن ركز تعلقات فؤاده عليه معقولية لمشاعره فيتفهمها التقي، وما أحلكها من دروب يعبرها الفؤاد الذي استكبر عن مورد الهدي وارتوى من موارد ليس همها أن تسقي القلوب الظمآنة بقدر ما همها أن تهيج نوازع أدمية وتبعثرها فلا يدري صاحبها لما يفرح ولما يحزن وكيف ينسج توافقا بين أحلامه وواقعه. لزم أن يكون وجدان المؤمن فياضا بأرق المشاعر كالماء الزلال الفياض من أصفى المنابع، ولا يقوى على حياكة أنبل المشاعر إلا هدي الوحي الذي يربط الوجدان بالمصير الحتمي، والروح بمستقرها الأبدي، وحين لا تصفو الروح من كدر الشهوات الدنيوية، وتوثقها حبال وأصفاد المغريات لا تنهض أن تجود بأنفس ما فيها من خير فتنير به البقاع، بل إن غاية مطلبها آنئذ أن تتحرر من الأغلال التي أوثقتها بالأرض، فيا لتعاسة هذه الروح المخندقة، ويا فرحة روح بهدي القرآن رشدت. ” قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ” ( يونس : 35).
إن للفؤاد الطاهر منافذ ليست بموصدة عن الذكر الحكيم مهما أوتي من إسراف وإسفاف، وإن اللحظة التي فيها يأذن هذا الفؤاد أن تخالط فيه الآيات بشاشته و سويداءه ينتفض واثبا قاصدا فتربو فيه مواجيد شريفة تحظى بمباركة الإله.
عالمنا و سخف المشاعر
يعرف الوجود الإنساني تموجات لا تكاد ترسو على معالم واضحة، وتزداد حالة الذهول والارتياب كلما بعد الزمان وتباعد الناس عن قيم الفطرة وأحدثوا معايير جديدة إليها يتحاكمون ويحكمون مشاعرهم وأعرافهم، ويذكي هذا وسائل التواصل المعاصرة التي صنعت عالما جديدا غريبا جعلت مشاعر الناس ألعوبة تسيرها كيف تشاء وتقنعها بما تشاء بغض الطرف عن القضايا الكبرى التي حولها لزم أن تجتمع هموم البشرية.
لقد صارت مشاعر الناس اليوم لا ناظم ينظمها ولا مقصد يؤمها منسوجة وفق طموح مادي صرف في منأى عن أدوار الإنسان الاستخلافية؛ فقد يتباكى الكثير عن أشياء فقدت أو نقصت ويكسبون بأحزانهم عنها تعاطف الناس ويستجلبون رحماتهم، والأمر قد يكون أتفه من أن يعلق عليه القلب إحساسا، وبالمقابل يظهر الكثير مشاعر البهجة والسرور بعوارض بخيسة ومكاسب زهيدة ليس لها أي شأن عظيم يشد الناس ويحقق لهم أمالا بعيدة، وحين يلزم أن نظهر المشاعر الحقة التي تعبر عن رشد الفؤاد وصفائه وتعلقه بمحبوبه العظيم، لا نرى مع الباكي بواكي ولا مع من يسعد بتحصيل شيء ثمين من يشاطره فرحه ويثمن إنجازه. عندما يتعلق الفؤاد بأغراض الدنيا وشهواتها لايبقى أي معقولية لمشاعر الإنسان، وتصير كالريح العاتية التي تجرف كل نبات جميل وتقلع كل جذر عريق ولا تحمل أي نسائم تربو بمواجيد الناس. وإن أصدق المشاعر تلك التي يسفر عنها الاختبار العسير في عصمة عن ديمومة الاستعراض وجريان التمظهرات العابرة و الخادعة.
حين يأذن القلب أن تعلق به هموما ومواجيد توثقه بأرضه التي فيها عابر و ويثقل عليه أن يعلو ولهه إلى السماء الرحبة حيث الله الواسع، حينها يغامر الآدمي بمشاعره، فهي كالنار قد تضيء فيشرق وميض كل من حولها، وقد تحرق بلهبها الوهاج كل شيء وتصيره إلى رماد، لذلك فقد يجد القلب المغبون في تلك المشاعر الزائفة حين يتلقاها زهوا وسرورا وامتيازا وارتقاء …، كيف لا وقد وجد ما يشغله، وجد محبوبا يرى فيه روحه وتصاريف مواجيده فعلق آمال بغيته بما يتوهمه فيه من محاسن، ولكنها ( المشاعر ) حتما سوف تذيقه بعد حين – حين تربو وتتكدس – الويلات والمآسي الحارقة، سيما بعد أن يصحو الفؤاد، ولابد أن يصحو من سكرة العشق و يتركه المحبوب الذي به علق آماله كالثكلى ينوح ويذرف دموع الندم على تفويته فرص التعلق بالمحبوب الأعظم خالق المحبة ومودعها في أرجاء كونه بأسره، كم من فتية أودعهم الله قلوبا بها يعلقون به، تجدهم مغامرين بها خانعين لعنفوانها ويذكي مغامراتهم ما يتلقونه من سيول الكلمات الفارغة من أي محتوى رباني، وموارد إعلام العصر لم تكتف بقصف العقول وعولمة السلوك الآدمي بل إنها أربكت مشاعر الناس، فلم يعد لمشاعرنا نسق ينظمها فنفطن متى نحزن و نفرح، و نستشعر متى نقبل أو ندبر، تمر بنا اللحظات وتزدحم علينا المهمات ولا واحدة منها تشدنا لجدوى كينونتنا، كل وأوجاعه، كل وتباريحه، كل و أفراحه ومسراته، كيف لا والذي كان يجمعنا حوله تفرقنا، واصطنعنا لأنفسنا عوالم منفردة من الوهم تأبى إلا أن تشدنا وتجدبنا إليها، وبددنا الطاقات التي كانت تصنع المعجزات في فردانيتنا المقيتة التي لم تزدنا إلا شتاتا.
المشاعر المجنونة مصنع المجون
المشاعر المجنونة لا تنبعث إلا من القلوب الخربة التي فطمت على حب المجون، وصامت عن الفضيلة التي بها ترقى، وقد ضرب الله لنا مثلا عن الأشواق المجنونة التي لا تحمد عواقبها جلاها بوضوح في حب امرأة العزيز ليوسف وهو الحب الذي أرداها بعد أن كانت تحسب في تمردها العزة والشرف، ويأذن الله عز وجل أن تُجَرّ مكرهة إلى محفل الاعتراف بالخطأ والاعتراف بإسراف الفؤاد الذي لم تحكمه رسالة السماء ابتداء، وهكذا حين يختار القلب الطائش أن يعلق مشاعره بمن ليس مشروعا له ويسرف في الوجد على وفرة المهالك وسوء العواقب يخنس له كل وميض ويكنس كل رفيع ويفترش لكل وضيع ويغدو في نهاية ملحمته مسودا حقيرا منبوذا لا يحظى بمباركة حتى محبوبه الذي اختاره، و لا يستشرق أنواره من جديد ويعلي من مقامه ويتعقل مواجيده الحقة إلا عندما يعرف محبوبه الأزلي ويتفتق فيه الوله إليه فيعيد أدوار العشق إلى مدارها الأصلي، ويقنع به محبوبا ويرضا به ربا معبودا، وفي ساحات السجود له يلقى كل المتسع لتصريف مشاعر الفؤاد، حينئذ تزول كل العلل، ولا ملامة بعدها للفؤاد إذا تصنع مشاعر شريفة هي فيوض لحب الإله وليس فيها مزاحمة ولا انصراف عنه.
إن المشاعر المستوحاة من نوازع الهوى المجرد عن نور الهدى المبين، والمتولدة من جنون الأشواق، والمحصورة بنزوات النفس وميولاتها المادية البهيمية، إن لم تسعى في إتعاب وتعذيب الضمير الإنساني التواق للاطمئنان، لا ترقى أن تزيح أوجاعه وهمومه وبالأحرى إن كانت تلك الميولات مصادمة للخير وللفضيلة التي جبل عليها الضمير الإنساني، وهكذا حين لا يهتدي الفؤاد بهدي الوحي يختل لديه نظام المشاعر فيستحسن كل رديء من قول أو فعله ولا يعترف بأي تقويم أو تسديد، ولربما صنع بتلك المشاعر الطائشة ملامح بطولية تغري الناشئة وتبهجهم، والمشاهدة الدراماتيكية التي تغزو الشاشات تتقصد إرباك فهم النشء وإفساد وجدانه، حتى لا يجد ملامة أن يستحسن كل ماجن.
مستلزمات الإيمان مصنع للأشجان
عندما يربو الإيمان في الفؤاد تربو فيه الأشجان النبيلة التي بها يصرف معاني الإنسانية الجميلة، وبما يلقاه الفؤاد من بشائر بعد أن تشرب الإيمان يصد كل مجون يزري بحياة الناس ولا يحفظ أعراضهم ويثمن علاقاتهم، ومن معالم رقي المجتمعات البشرية أن نمرر أشجان الإيمان التي رام دين الإسلام منذ مهده أن يجعلها أساسا تعاقديا يضمن حفظ كيان الأمة ويجعلها أمة جامعة غير منفردة في الهموم والمآسي.
الروح المعقودة على الإيمان، والمفطومة على حب الجنان، تجود بأنفس الخواطر المبيدة لكل المخاطر، ومنتوجها الوجداني الإيماني الخالص هو الذي يضخ في حياة الإنسان النفس فينجو حين تعصف به الأزمات، ويجثو عل كثرة المثبطات.
لقد كان للجيل الأول الفريد الذي نشأ على حب الإيمان ولازم صاحب الشريعة والبرهان صلى الله عليه وسلم رشد وتؤدة في كل شيء فحق بذلك أن يكون مدرسة للبشرية، كيف لا ومنهم تعلم الإنسان أن لا ينكسر أمام طيش المشاعر المنفلتة؛ فلا تستدرجه الأفراح البخسة والأحزان التافهة، كما تعلم منهم أن لا يركع لمخلوق على جبروته، بله أن يطيش بمشاعره حتى لا يبقى لها ناظم، ومنهم تعلمنا الحب والتراحم والرفق… وكل المشاعر الرقيقة وكيف نوطنها في موطنها، كما تعلمنا منهم الحزم والعزم والإصرار والقوة… وكل المشاعر الراكزة التي لا تهزها عاطفة جياشة، ولم تكن تتقاطع هموم فتية الإسلام الأوائل وأحزانهم التي تمليها عليهم طبيعتهم الآدمية مع المواجيد التي نبتت في قلوبهم بعد أن ملئت إيمانا وتعلقت بمقاصد القرآن؛ فكانت أفراحهم للدين الذي جمعهم،” فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران170 ـ 171) ، ولم تكن أحزانهم الكبيرة على أغراض الدنيا بل كانت على فائت أخروي ” وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ” (التوبة : 92).
لا يعرف النور من لا يكره الظلام لأنه استنار بالضلال فسكنه الظلام وابتهج بسواده، أتراه يبرق له وميض، أتراه يلقى في بريق النجوم وهالة القمر منظرا، بيد أنه حين يتفتق نور الإيمان في أفئدة الناس تباد كل الضغائن، ولا يبقى من دخن المشاعر حظا.
في اللحظة التي يخامر اليأس فيها الفؤاد التقي حين يتبصر الأرض وهي ثكلى لأنفس فضائلها التي بها ازدانت تاريخا، تلوح للفؤاد المغبون شذرات تترى هنا وهنا تترقب من يستجمع أنفاسها للوثب على المجون المستشري، فاحذر أن ينفذ رصيد الإيمان منك أمام حقائب المجون المثقلة، إن المفتقر المعدوم من بعثر كنوزه الفطرية في استجلاب المتع العارضة، يكفيك أن تلمح البؤس الذي يعيشه المسرفون حين نفذ رصيدهم الإيماني وإن تصنعوا البهجة على محياهم الذي يحكي مآسيهم، ويعلم بارئهم كم تواري أحلامهم كوابيسهم، تبصر يا غريب الزمان في الفضاء حيث ذهبت عنه النجوم ألا ترى فيه غير الظلام؟! وتذكر كيف كانت الأرجاء مشرقة حين كانت الجموع تنهل من الهدي السماوي، و تأهب يا غيور بكل أوزانك لتنير أنوارك، وادخر كل جهدك في استبقاء شيمك ورفع قيمك التي فطرت عليها، وإياك أن تسترخص عملتك وتزري قلتك، فلا يضر الذهب إن كان أصله الرغام، وما شأن الثرى بعلياء الثريا التي تلألأت.
للعقول مسارات وللأرواح منعرجات ولكل مدلهمة انفراجة، عش لحظة أمل على ما في قلبك من وجع، أنفذ هنيهة إلى أغوار نفسك الطاهرة ستلقى عالما رحبا لا يقاس بالخنادق التي حاصرتك، و مشاعرك الراشدة المعقودة على الإيمان برهان على روحك الطاهرة التي لم تصب بمنثن، وجودة محصولها رهين بحسن الزرع وإن البذور الجيدة لمنثورة بين آيات القرآن لا يلتقطها إلا المتبصر الواثب التائب من سخف المشاعر، أو تطن أن الذي فطر الفؤاد جل في عليائه قد أهمله !؟، أو تظن أن إبلـيس حـــــين وسوس فيه قد ساسه وداس على نبعه الحساس !؟
أملنا غزير أن يحصل لأمة الإسلام مثل هكذا انتفاضة جامعة تحاكي بها قوة التلقي للوحي التي كانت لدى الجيل الأول وتبيد بها كل المتطفلات على الروح والفهم التي أحدثها تغير الزمان.