منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

منافعُ حــج بيت الله الحرام

منافعُ حــج بيت الله الحرام/ جمال أيت بوجمعة

0

منافعُ حــج بيت الله الحرام

بقلم: جمال أيت بوجمعة

 

منافع الحج؛ تعبير قرآني مليح، حري بالمؤمن أن ينقب عن تلك المنافع التي أودعها الله في كتابه في سور ضمت بين ثناياها الحديث عن فريضة الحج وجزئياته، وفي الشق الثاني من مصادر التشريع وهو حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد عمد الأئمة الأعلام وأرباب التخصص إلى الكشف عن تلك المنافع، وحرصوا على دعوة الناس إلى اغتنام نفحات المناسبات الدينية عموما كلما دنا زمنها، واقترب وقتها، لجني ثمارها اليانعة، وقطوفها الدّانية، وبذل المجهود لاغتنام النفحات ونسائم الخير، وستر الخطايا بالأوبة والمبادرة إلى التوبة، والسعي لإدراك مقاصد العبادات الموسمية لتزكية النفوس وتحقيق غاياتها. ومما أمر الله تعالى به من العبادات والطاعات والأعمال الصالحة؛ حج بيته الحرام، وتلبية النداء المرتبط بهذه الشعيرة، وزيارة أقدس البقاع لإدراك المنافع التي أودعها الله تعالى في شعيرة الحج، وفي هذا السياق وجه الله تعالى خطابه للمؤمن المستطيع آمرا إياه بتلبية النداء فقال:” ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا”. (آل عمران 97).

هذه الفريضة التي شرعها الله تعالى وأمر عباده المؤمنين بأدائها هدفها تحقيق مقاصد وغايات تعود بالنفع على الإنسان، وتسهم في ترسيخ قيم التوحيد والتعارف والمساواة والتعاون والتزكية، وقد سمى الله تعالى تلك الغايات التي شرع من أجلها عبادة الحج بالمنافع، وهي منافع دنيوية وأخوية كما بين ذلك القرآن الكريم في ءايات كثيرة. وهدف هذه الكلمات الكشف عن تلك المنافع وتوضيحها وبيانها، لكنّ حديثي عنها سيقتصر على ما ورد في آية قرآنية جمعت بعضها، وهي من شعائر الحج الأساسية، قال تعالى مبينا إياها:” وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ”. (سورة الحج، 27- 29).

لقد وصل نداء نبي الله إبراهيم عليه السلام الآفاق، واخترق الآذان، وألقى بأنواره على الألباب، فلبت الأفئدة نداء ربها، وسعت جاهدة صابرة محتسبة الأجر والثواب ونيل مرضاة الله ورضوانه لبلوغ بيته الحرام، لتحقيق منافع كثيرة، ومنها المنافع الأربعة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، وحديثي هنا سيكون حولها وعنها، وإليكموها:

– المنفعة الأولى: ذكر الله تعالى في الأيام المعلومات.

المراد بالأيام المعلومات العشر الأوائل من شهر ذي الحجة الحرام، وقد استهل الله تعالى الحديث عن المنافع التي جمعتها هذه الآية الكريمة بالحديث عن ذكر اسمه جل جلاله بين يدي شعيرة من الشعائر التي شرعها طاعة وتقربا إليه، والمراد بالذكر هنا؛ ذكر اسم الله تعالى عند الذبح أو النحر، وقدم الذكر على الذبح ليدرك المرء أن المقصود من هذه العبادة أساسا هو التقرب إلى الله تعالى، وصرف العبادات كلها له، قال الإمام الرازي:” كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا وذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان”.(مفاتييح الغيب 20/221).

ومما يبين أهمية ذكر اسم الله تعالى في عملية الذبح قوله تعالى:” ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق”.(الأنعام 121). وليس المقصود من الذبائح التي يتقرب بها العباد إلى الله تعالى أصالة اللحم وإسالة الدماء كما يعتقد البعض، وإنما تحقيق التقوى والعبودية والخضوع التام لله، قال تعالى مزيلا هذا الظن ودافعا هذا الوهم:” لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى”.(الحج 37). كما أن هذه العبادة والشعيرة تذكر المؤمنين بقصة نبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، قصة تجلت فيها الطاعة المطلقة والاستسلام التام لأمر الله تعالى، فكان من نتائج هذه القصة التي سطرها القرآن العظيم تخليدها بالأضحية تقربا لله تعالى ونيل مرضاته، وسيرا على دأب الأنبياء والصالحين واقتفاء أثرهم.

– المنفعة الثانية: الأكل من الذبيحة وإطعام الفقير.

شرع الله الأضحية لتحقيق التضامن والعطف على المحتاجين والفقراء، وقد دعا الله تعالى عباده إلى الأكل من ذبائحهم ابتداء قبل تقديم جزء منها للفقراء والمحتاجين ليشعروهم بأنها حلال وأصلها طيب، ولإزالة ما قد يرد على النفوس من كونها غير طيبة زهد فيها صاحبها فأراد التخلص منها، أو يكون الهدف من دعوة الشارع الحكيم إلى الأكل منها هو بيان أن الهدف من وراء مقاصد بعض العبادات بالتبع إشراك المحتاجين والفقراء والالتفاتة إلى من عضهم الفقر بنابه، لأن عدم قدرتهم على إيقاعها لا يمنع من وصول أثر تلك العبادة إليهم، ومن هنا ندرك أن شعائر الله لها امتداد على الأفراد والمجتمع، وأن هدفها غرس قيم التعاون والتضامن وإزالة أسباب الضغائن والأحقاد، وتطهير النفوس من الآفات والقيم السلبية التي تقضي على وحدة الأمة وتماسكها.

– المنفعة الثالثة: إزالة الأوساخ عن الأبدان.

في أيام شعيرة الحج يمسك المحرم عما أباحه الله تعالى خارج هذه العبادة، فالحج إذن عبادة محكومة بزمن معين، يمنع فيها ما يمنع في بعض العبادات مما كان مباحا خارجها، فالحاجّ إذا أتم مناسكه التي شرعها الله، وأمر عباده بأدائها تقربا إليه وطمعا في رحمته ورضوانه، دعاه إلى إزالة ما حرم عليه في زمن شعيرة الحج، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله:” ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم”، ” والتفث في المناسك: الشعث، وما كان من نحو قص الأظفار والشارب، وحلق العانة وغير ذلك”.(القاموس المحيط ص:165)، قال ابن عطية:” التفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك”.(المحرر الوجيز4/119). فهذه الأمور كانت محظورة على الحاج، ولعل الحكمة من ذلك ليظهر في حالة يتجلى فيها التواضع والتذلل والخضوع التام لله تعالى، لكن عندما يكمل عبادته يزيل عن بدنه ما علق به من أوساخ وأثر العرق والغبار ليظهر في صورة حسنة يعكس من خلالها مظهرا من مظاهر الإسلام وهو الجمال والحسن والنقاء والطهارة.

وقد دعا الله عباده إلى الوفاء بما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات والعبادات فقال:” وليوفوا نذورهم”، وهو ما فرضه الله من المناسك المرتبطة بالحج، وهي مما لا يتم الحج ولا يتحقق إلا بها، قال ابن العربي في بيان معناها:” يلزم الوفاء برمي الجمار، وبنحر الهدي، ويجتنب الوطء والطيب حتى تقع الزيارة”.(أحكام القرءان 3/283). فالحج عبادة الزام والتزام، لا يتحقق إلا بأداء ما أوجبه الله تعالى على عباده من الأركان والواجبات، والامتناع عما حرمه مؤقتا من المباحات، فهو إذن بمثابة النذر الذي يستوجب التنفيذ والوفاء.

– المنفعة الرابعة: الطواف بالبيت العتيق.

سميت الكعبة بالبيت العتيق لأنها أول مسجد وضع للناس في الأرض، والمراد بالطواف هنا طواف الإفاضة كما ذهب إلى ذلك بعض أرباب التفسير، قال ابن العربي:” هذا هو طواف الزيارة، وهو طواف الإفاضة، وهو ركن الحج باتفاق، وبه يتم الحج؛ لأنه أحد أعماله ونهاية أركانه”.(أحكام القرءان 3/283). وهذه المنفعة الرابعة هي ختام مناسك الحج، عبادة الرقي الروحي والسمو الأخلاقي، وهي من تمام شكر الله تعالى على أداء هذه الشعيرة التي تهوي إليها أفئدة المؤمنين شوقا لزيارة خير البقاع، ورغبة في الثواب الذي رتبه الله على من أداها من غير رفث ولا فسوق ولا جدال وخصام وسب وشتم، وهو التخلص من الذنوب والسيئات والآثام.

تلك إذن بعض منافع الحج؛ ذكرها الله جل جلاله في هذه الآية الكريمة، تتجلى فيها معالم العبودية والخضوع التام لأوامر الله تعالى. وذكر اسمه في العبادات والطاعات هدفه إضفاء الشرعية عليها لينال صاحبها الجزاء الأوفى، ويعظم المؤمن خالقه في نفسه ويشكره على نعمه، لينعكس أثر ذلك التعظيم على السلوك الفردي والجماعي، وذلك بغرس قيم التعاون والتضامن والاستقامة والتوحيد، وما أداء شعائر الله والطواف ببيته العتيق؛ إلا تعبير عن الخضوع والقابلية المطلقة لتطبيق أحكام الله تعالى، وبخاصة تلك الأحكام التي يجهل الإنسان الحكمة من تشريعها.

تقبل الله من الوافدين على بيته وضيوفه حجهم، ورفع درجتهم، ورزق المؤمنين جميعا حج بيته العتيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.