منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

أول أعمال الحج التجرد للإحرام المذكر بالتجرد للأكفان |سلسلة خطبة الجمعة

الشيخ عبد الله بنطاهر التناني

0

أول أعمال الحج التجرد للإحرام المذكر بالتجرد للأكفان |سلسلة خطبة الجمعة

بقلم: للشيخ عبد الله بنطاهر التناني

الحمد لله المستحق لكل المحامد الوافرة، شرع لنا التجرد للإحرام بالحج من الألبسة الفاخرة، حتى نتذكر التجرد بلباس الأكفان للآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله سوى في الموت بين الضعفاء والجبابرة، فكل نفس ذائقة الموت في هذه الدنيا العابرة، سواء الحاضرة منها والغابرة، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الهادي إلى الإيمان القلوبَ الكافرة، وإلى الراحة النفوسَ الحائرة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الأعمال الباهرة، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الساهرة…

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.

الحج هو السفر في الدنيا الذي يذكرنا بالسفر من الدنيا؛ والحجاج يستعدون في هذه الأيام، يتعلمون كيف يتجردون من كل مخيط ومحيط، كيف يلبسون لباس الإحرام الأبيض المكون فقط من رداء للأعلى وإزار للأسفل؛ أتدرون لماذا يتجردون؟ لأن الحاج حينما يحج دون جدال ولا رفث ولا فسوق فإنه سيولد من جديد، يقول النبيﷺ: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم(1) ولدته أمه»؛ وهذا يدل على أن ذلك الحاج المذنب المتجرد للإحرام كأنه قد مات ليولد مغفور الذنوب.
وأول أعمال الحج التجرد للإحرام الذي يذكرنا بالتجرد للأكفان بالموت، والإكثار من تذكر الموت أمر مطلوب شرعا؛ يقول رسول اللهﷺ: «أكثروا ذكر ‌هاذم(2) ‌اللذات (بالذال المعجمة أي: قاطع اللذات) -يعني الموت- فإنه ما ذكره أحد في ضيق(3) إلا وَسَّعَهُ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه»؛ ومعنى هذا الحديث: أن الإنسان إذا ضاقت عليه الدنيا بمرض أو فقر أو ظلم أو بأي شيء آخر؛ فإنه حين يتذكر الموت يقول: أنا في رحمة ومازلت في نعمة، فالموت بكل ما فيه من آلام وسكرات أشد مما أعاني، فيرضى بحاله الذي هو عليه الآن.

وأما عند السعة وفي وقت الرخاء والترفه فربما سيترفع ويتكبر ويطغى عندما يرى كثرة أمواله وسعة أحواله، فإذا ما تذكر الموت ضَيق عليه كل ذلك حتى لا يتحول إلى الطاغية؛ لأن النفوس تطغى بالفلوس؛ كما قال لله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ}.
أيها الإخوة المؤمنون؛ كل شيء في هذه الدنيا نسبي إلا الموت؛ نقول مثلا: مرض فلان مرضا خفيفا أو متوسطا أو كثيرا، وهذا غني قليلا أو متوسطا أو كثيرا، فقير قليلا أو متوسطا أو كثيرا؛ وكذلك الصحة والعفة والقوة والتدين والعلم والعمل والفهم والوهم والجهل والنسيان والخطأ والأخلاق والأرزاق، فللناس في كل ذلك مستويات بين القلة والتوسط والكثرة؛ أما الموت فله مستوى واحد؛ فلم نسمع قط بأن فلانا مات موتا خفيفا أو متوسطا أو كثيرا؛ كل شيء فيه (بالزَّافْ أو شْوِيَّ) كما نقول بالدارجة، إلا الموت لا يوجد فيه (مات بالزَّافْ أو مات شْوِيَّ)؛ لأن الموت هو اليقين الذي يأتي حقيقة في مستوى واحد يستوي فيه جمع الأحياء، لا يتفاوت حسب تفاوت المستويات الاجتماعية للإنسان، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، يستوي فيه الكبير والصغير والقوي والضعيف والغني والفقير والمأمور والأمير؛ كلمة واحدة تجمع الجميع: (مات رحمه الله).

فالموت يأتي بلا سابق إنذار، وقد يأتي بدون شيخوخة أو مرض أو أعذار، فكم من واحد يخرج من بيته معافى باحثا عن أسباب عيشه، فلا يعود إليه إلا وهو مسجى في نعشه، وكم من واحد يضع لنفسه مشاريع مستقبلية واعدة، إذا بالموت فجأة يضع حدا لحياته فيجعله جثة هامدة، كما قال الشاعر:

بينا الفتى مرِحُ الخُطى فرحا بما * يسعى له إذ قيل: قد مرض الفتى
إذ قيل: بات بليلـــــة ما نامهـــــــــا * إذ قيل: أصبح بائســـــــــــــا لا يرتجى
إذ قيل: أصبـــــح شاخصا ومعلَّلا * وموجَّها إذ قيـــــــــــل: قد مات الفتى

مات الأجنة في البطون، ومات الأطفال في الأحضان، ومات الشباب بين الأقران، ومات الكهول والشيوخ ومَنْ بقي إلى أرذل الأعمار؛ والقرآن الكريم دائما يذكرنا بالموت؛ تدبروا معي هذه الآيات التي تضرب في القلوب فيرتدُّ آثرها على النفوس: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}.

ورغم كثرة مصيبة الموت الذي نشاهده كل يوم، إلا أن كثيرا منا مازال في غفلة كأن الأمر لا يعنينا، نرى الموت يتخطف الناس من حولنا فلا نتعظ، ويفجعنا في أقرب الناس إلينا فلا نعتبر، ونتجرأ على الله بارتكاب المعاصي وأرواحنا بيده، وننسى أوامره والموت يأتينا فجأة بأمره؛ ألا إن موت غيرنا أمام أعيننا جرس إنذار لنا، لننتبه من تغافلنا العقيم، ولنستيقظ من سباتنا العميق؛ ما أصدق فينا قول الشاعر:

وَإِنِّي لَـمِمَّنْ يَكْرَهُ الْـمَوْتَ وَالْبِلَى * وَيُعْجِبُهُ رَوْحُ الْحَيَــــــــاةِ وَطِيبُــــــــهَا
فَحَتَّى مَتَى حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى * يَدُومُ طُلُوعُ الشَّمْــسِ لِي وَغُرُوبُهَا
كَأَنِّي بِرَهْطٍ يَحْمِلُونَ جَنَازَتِــــــي * إِلَى حُفرةٍ يُحْثَــــــى عَلَيَّ تُرَابُــــهَا
أَيَا ‌هَاذِمَ ‌اللَّذَّاتِ مَا مِنْكَ مهربٌ * تُحَاذِرُ مِنْكَ النَّفْسُ مَا سَيُصِيبُهَا
رَأَيْتُ الْمَنَايَا قُسِّمَتْ بَيْنَ أنفسٍ * وَنَفْسِي سَيَأْتِي بَعْـدَهُنَّ نَصِيبُهَا

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين…

الحمد لله رب العالمين…

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ لقد شرع لنا الإسلام التعامل مع الميت؛ بدأ من تلقينه كلمة التوحيد عند احتضاره وخروج روحه، إلى إحضاره لغسله وتكفينه والصلاة عليه، إلى تشييع جنازته والحضور لدفنه، ثم بعد ذلك زيارة قبره؛ وذلك كله من أجل العبرة {‌فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ}؛ والعبرة هي إحساس يشعر به الإنسان في قلبه يدفعه إلى أمرين متلازمين هما: الإدراك والاستدراك؛ فالإدراك نفسي، والاستدراك عملي؛ يقول الله تعالى فيهما: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

فالإدراك النفسي: أن يستشعر المسلم أنه سيأتي عليه مثل هذا اليوم محمولا على الأكتاف، فيدرك قبل فوات الأوان ما فعل من شر العمل وعمل الشر فيتوب إلى الله ويستغفره ويراجع حساباته، فيجتنب شرورا كان يرتكبها وذنوبا ما زال يمارسها.

والاستدراك العملي: أن يغير المسلم ما بعمله من سيئ إلى حسن ومن حسن إلى الأحسن؛ مصداقا لقول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}؛ فيستدرك ما فاته من عمل الخير وخير العمل؛ والعاقل من أخذ العبرة من غيره، والغافل من كان عبرة لغيره.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ.
ــــــــــــــــــــــــــ
الهامش:
(1) بالفتح والكسر والفتحُ هو المختار، لقول ابن مالك:
وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا * وَاخْتَــــرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْـلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْـلٍ مُعْـرَبٍ أَوْ مُبْتَـــــدَا * أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
(2) ‌يجوز فيه الضَّيْق والضِّيق؛ والفرق بينهما: ‌الضَّيْق بالفتح في الصدر والمكان، والضِّيق بالكسر في البخل وعسر الخلق ومنه قوله تعالى ” ولا تك في ضيق مما يمكرون “، وقيل غيره: ‌الضَّيْق: مصدر والضِّيق: اسم ضاق الشئ ضَيْقا. ينظر: معجم الفروق اللغوية لابن مهران العسكري: (ص: 333).
(3) الصحيح في الرواية أن “الهاذم” بالذال المعجمة ومعناه: القاطع؛ قال الحافظ العراقي: “منهم من يقول (الهادم) بالدال المهملة والمعنى صحيح (أي: في اللغة) إلا أنه مخالف للرواية” تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: (5/ 2332).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.