أصل تحديد مسافة القصر 85 كيلو مترا|سلسلة فقه الجمعة
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
أصل تحديد مسافة القصر 85 كيلو مترا|سلسلة فقه الجمعة
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه ورشده.
وبعد؛ فقد جاءني سؤال يقول صاحبه: نسمع من الفقهاء بأن مسافة القصر هي (85 كيلو مترا) ومنهم من يقول: (80 كيلو مترا) ومن يقول: (90 كيلو مترا)؛ بل سمعنا من يقول: (48 كيلو مترا)؛ فمن أين أتوا بهذا وقياس المسافة بالكيلومتر غير معروف في عهد الرسولﷺ؟ وما أسباب هذا الاختلاف؟ أرجو توضيح ذلك جزاك الله خيرا.
الجواب والله الموفق للصواب:
قدر العلماء مسافة القصر ما بين (80 إلى85 إلى 90 كيلو مترا)؛ بناء على تقدير المسافة التي جاء فيها القصر عن الصحابة رضي الله عنهم؛ منها:
• ما روى الإمام مالك في الموطإ: موصولا: «أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النُّصُب، فقصر الصلاة في مسيره ذلك»… ثم قال: “وبين “ذات النُّصُب” والمدينة أربعة بُرُد”(1).
• ما روى الإمام مالك: «أنه بلغه أن عبد الله بن عباس، كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعُسْفَان، وفي مثل ما بين مكة وجدة»؛ ثم قال: “وذلك أربعة بُرُد، …وذلك أحب ما تقصر الصلاة فيه إليّ”(2)؛ وقد وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة والشافعي والبيهقي موقوفا عن عطاء قال: «سألت ابن عباس: أقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا، قلت: إلى منى؟ قال: لا؛ ولكن إلى جدة وإلى عسفان وإلى الطائف؛ فإن قدمت على أهل لك أو على ماشية فأتم الصلاة» وفي رواية: «وذلك ثمانية وأربعون ميلا وعقد بيده»(3)، صححه ابن الملقن وابن حجر(4).
واستخراج مسافة القصر يتحقق بأمرين:
الأول: الرجوع للمسافة بين هذه الأماكن وبين مكان بداية السفر إليها من المدينة المنورة حسب ذات النُّصُب، أو من مكة المكرمة حسب الطائف وعُسْفَان وجدة:
1) ذات النُّصُب؛ بضم النون وسكون الصاد موضع كانت فيه أنصاب فى الجاهليّة وهي الأصنام المنصوبة للعبادة، بينه وبين المدينة أربعة بُرُد(5)، تسمى اليوم “النصبية” تبعد عن المدينة حسب الخط المستقيم المباشر باعتماد محدد المسافات في محرك “ﮔوﮔل” (70كم)، وحسب طريق السيارة (78 كم).
2) الطائف؛ مدينة معروفة تبعد عن مكة حسب الخط المستقيم لمحدد المسافات في “ﮔوﮔل” (66 كم)، وحسب طريق السيارة (96 كم)(6) بسبب المنعرجات الطرقية التي تمر منها السيارة.
3) عُسْفَان؛ بضم العين وسكون السين قرية بين مكة ورابغ قريبة من طريق المدينة(7)، تبعد عن مكة حسب الخط المستقيم لمحدد المسافات في “ﮔوﮔل” (70 كم)، وحسب طريق السيارة (87 كم).
4) جُدَّة؛ بضم الجيم؛ مدينة معروفة تبعد عن مكة حسب الخط المستقيم لمحدد المسافات في “ﮔوﮔل” (67 كم)، وحسب طريق السيارة (73 كم)(8).
الثاني: التعريف بأربعة بُرُد الوارد عن الإمام مالك وغيره في مسافة القصر؛ فهو جمع بريد على القياس، والبريد: أربعة فراسخ؛ ففي أربعة بُرُد ستة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال؛ ففي الستة عشر فرسخا ثمانية وأربعون ميلا؛ قال ابن عبد البر: “واختلف في الميل وأصح ما قيل فيه: ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع”(9)، وفي المشهور عند المالكية أنه ألفا ذراع(10)، والذراع ما بين طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى(11)؛ وقد قِسْتُ ذراعي من رأس أصبعي الوسطى إلى مرفقي فوجدته (50 سنتيما) أي: نصف متر.
وبناء عليه؛ فإذا اعتبرنا القول الذي صححه ابن عبد البر (3500 ذراع)؛ فإن الميل هو (1750 مترا) مضروب في ثمانية وأربعون؛ الحاصل: (84 كيلو مترا) وهي مسافة القصر؛ وإذا اعتبرنا المشهور في المذهب فإن الميل هو (1000 متر)، والحاصل: (48 كيلو مترا) وهي مسافة القصر، وقد قال به بعض الفقهاء؛ ولكنه قول شاذ ولو بني على المشهور لأنه يخالف المسافات الجغرافية السابقة عن ابن عمر وابن عباس.
النتيجة: أن مسافة القصر بناء على تقدير هذه المسافات وبناء معنى البريد والفرسخ والميل تتراوح ما بين (78 كيلو مترا) وبين (96 كيلو مترا)؛ وجل الفقهاء أخذوا بالوسط وهو (85 كيلو مترا)، ويمكن أن نقول مسافة القصر ما بين (78 كيلو مترا) و(96 كيلو مترا)؛ فالأوسط: (85 كيلو مترا)، والأحوط: (96 كيلو مترا) والأبسط: (78 كيلو مترا) والأفرط: (48 كيلو مترا). والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.
الهامش:
(1) موطأ مالك: كتاب السهو: باب ما يجب فيه قصر الصلاة: (رقم: 491).
(2) موطأ مالك: كتاب السهو: باب ما يجب فيه قصر الصلاة: (رقم: 495).
(3) مصنف عبد الرزاق: (3/240): (رقم: 4427)، ومصنف ابن أبي شيبة: (5/263): (رقم: 8356)، ومسند الشافعي: (1/327)، والسنن الكبرى للبيهقي: (3/196): (رقم: 5399).
(4) لاصة البدر المنير لابن الملقن: (1/202)، والتلخيص الحبير لابن حجر: (3/968).
(5) معجم ما استعجم من اسماء البلاد والمواضع للبكري: (4/1309)، ومعجم البلدان للحموي: (5/287).
(6) المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد بن محمد حسن شُرَّاب: (ص:170).
(7) معجم البلدان للحموي: (4/121)، ومراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين القطيعي: (2/940)، والمعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد بن محمد حسن شُرَّاب: (ص:191).
(8) المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد بن محمد حسن شُرَّاب: (ص:88).
(9) الاستذكار لابن عبد البر: (1/49).
(10) التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب للشيخ خليل: (2/20)، والشامل في فقه الإمام مالك لبهرام: (1/129).
(11) المكاييل والموازين الشرعية لعلي جمعة: (ص: 28).