الفاروق والفرقان
ذ. إسماعيل هادي
عُرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوة إيمانه وغيرته الشديدة على الإسلام، وجرأته في الحق، كما اتصف بعقله الراجح والحكمة الفائقة ورأيه السديد. حيث كان القرآن الكريم وحده هو المنهج، والفكرة المركزية التي صاغت شخصيته الإِسلامية، فقد طهرت قلبه، وزكَّت نفسه، وتفاعلت معها روحه، فتحول إِلى إِنسان جديد بقيمه، ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه، وتطلعاته. فأصبحت نظرته إِلى الله، والكون، والحياة، والجنة، والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم، وهدي النبي ﷺ.
القرآن طريق الإيمان.
حين كشفت فاطمة بنت الخطاب إسلامها وزوجها بعد أن عنفها أخوها عمر، قال عمر: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم واغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ. ثم أخذ الكتاب فقرأ: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } حتى وصل الى قوله تعالى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}(1)، فقال عمر دلوني على محمد.(2) فدلَّه خباب بن الأرت على الرسول ﷺ، فأسلم رضي الله عنه.
موافقات عمر للقرآن الكريم:
من المعلوم أن العديد من الآيات القرآنية لها أسباب لنزولها، كسؤال أو حادثة تقع، ومن ذلك أن عمر كان يبدي رأيه في بعض المسائل المهمة، فتنزل الآيات موافقة لما رأى، وقد اختُص عمر رضي الله عنه بكثرة موافقته للقرآن؛ لما رزقه الله من العلم والفقه في الدين، مع الفراسة الصادقة.
عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. وقال أيضا: ” ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر؛ إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر” (3).
هذا الكلام من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعني أن الأمر كان متكررا، وقد أطلق العلماء على هذه المواقف العمريَّة العجيبة: «موافقات عمر رضي الله عنه»، وحرصوا على جمعها، وأوصلها بعضهم إلى عشرين أو أكثر.(4)
أخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن. وأخرج ابن عساكر عن علي قال: إن في القرآن لرأيا من رأي عمر. وأخرج عن ابن عمر مرفوعاً “ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر”.(5)
ومما وافق عمر فيه القرآن ما يلي:
أخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: “واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى”. وقلت: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي ﷺ في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك.(6) ولهذا يدخل أهل العلم هذه الموافقات في أسباب النزول.
عمر يحتفل بحفظه لسورة البقرة
عن ابن عمر قال: (تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورا).(7) وقال أيضا: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه يقرأون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به).(8)
ولو أراد عمر بن الخطاب حفظ سورة البقرة كاملة في ساعتين لحفظها بدون أي عوائق، كما حصل معه ومع الصحابة حين نزلت سورة الأنعام دفعة واحدة في ليلة واحدة فحفظوها كاملة من أول سماع ومن مرة واحدة وقت نزولها. تلك عادة عقلية عند كل العرب في زمانه في باب سرعة حفظهم بالبديهة والتلقائية، رغم أنهم أُميون لا يجيدون القراءة والكتابة، ومع ذلك كانوا يحفظون القصائد الطويلة المعقدة من أول مرة يسمعونها، مع أن الشعر الجاهلي أكثر صعوبة على النطق وعلى الذهن، فما بالك بالقرآن الذي يسره الله على كل البشر من عرب وعجم وجعله أفصح الكلام وأيسره ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) ( بلسان عربي مبين ).
وسبب تأخر عمر في حفظ سورة البقرة، أنه كما أخرج البيهقي في الشُعب، بقي يتعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا.(9) إذ كان يحرص في هذه المدة الطويلة أن يتعلم سورة البقرة وأن يتفهم ما فيها من المعاني والعقائد والأحكام، ويتعلم ألفاظها، وما حوته من الهدايات.
كان عمر سببا في الجمع الأول للقرآن
قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن الكريم، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ ؟ فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني به من جمع القرآن.(10)
عمر يكرم أهل القرآن
عن عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث الخزاعي تلقى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فسلم على عمر، فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ فقال نافع: استخلفت عليهم يا أمير المؤمنين ابن أبزى. فقال عمر: وما ابن أبزى؟ فقال نافع: هو من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وآله قال: إن الله سبحانه وتعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين.(11)
وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشورته كهولا كانوا أو شبابا.(12)
عمر يرسل القراء إلى الأمصار
قال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمان النبي ﷺ خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن صامت وأبيّ بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء؛ فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إنَّ أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعِنّي يا أميرَ المؤمنين برجالٍ يعلمونهم؛ فدعا عمرُ أولئك الخمسة فقال لهم: إنَّ إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلّمهم القرآن ويفقههم في الدين؛ فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم… فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء.
(وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات).(13)
وصايا عمر بالقرآن
أوصى عمر بن الخطاب بالقرآن في محافل كثير، وفي خطب عديدة، أذكر بعضها، قال:
- ( تعلموا القرآن تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله…) (14)
- (عليكم بهذا القرآن، فإن فيه النور والشفاء، وفي غيره الشقاء).(15)
- (إن هذا القرآن كلام الله عز وجل فضعوه على مواضعه، ولا تتبعوا فيه أهواءكم).(16)
- (كونوا أوعية للكتاب، وينابيع للعلم).(17)
الهوامش
1- سورة طه: من الآية 1 إلى 13.
2- انظر تفسير أول سورة » طه «في الدر المنثور، الجزء 5، ص 560/561.
3- رواه الترمذي في السنن، رقم الحديث 3682.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص99-101.
5- تاريخ الخلفاء للسيوطي، فصل في موافقات عمر رضي الله عنه، ص 78.
6- نفس المصدر
7- ذكره الخطيب البغدادي في “كتابه أسماء من روى عن مالك”. الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص40.
8- رواه أبو بكر بن الأنباري. الجامع لأحكام القرآن ج 1، ص40.
9- شعب الإيمان للبيهقي، الجزء3، ص346، رقم:1805.
9- صحيح البخاري رقم 4986.
11- فضائل القرآن لابن سلام: 40.
12- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، ج 44، الصفحة 310.
13- طبقات ابن سعد، الجزء 2، ص 357.
14- كنز العمال، الجزء 16، ص 152/153.
15- نفس المصدر، ص 163/166.
16- رواه أحمد في الزهد. كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد التفسير وعلوم القرآن. ص440.
17- رواه أحمد في كتاب ” العلل ومعرفة الرجال” رقم 4719.