علاقة الديمغرافيا بالعلوم الانسانية والاجتماعية
علاقة الديمغرافيا بالعلوم الانسانية والاجتماعية/ أحمد غزواني
علاقة الديمغرافيا بالعلوم الانسانية والاجتماعية
بقلم: أحمد غزواني
تمهيد
تعمل الديمغرافيا كحقل معرفي على دراسة وتفسير الظواهر السكانية بالاعتماد على أليات إحصائية كمية أو ميكانيزمات تحليلية كيفية، فالظواهر السكانية هي موضوع الديموغرافيا، هذا الموضوع الذي يتقاطع مع مواضيع علوم اجتماعية وإنسانية أخرى من ذلك منها علم الاجتماع، علم السياسة، علم الاقتصاد…،
- فما طبيعة هذه العلاقة التي تربط الديموغرافية بهذه العلوم؟
- وكيف وأين تتجلى هذه العلاقة؟
المحور الأول: الديمغرافيا وعلم الاجتماع
تبرز طبيعة العلاقة بين الديمغرافيا والسوسيولوجيا في وجود قواسم مشتركة من حيث الدراسة والبحث، فالقاسم المشترك الأساسي الذي تقوم عليه العلاقة بينهما هو المجتمع ومشاكل الحياة الاجتماعية، التي تفرزها العلاقة بين أفراد المجموعات المكونة للمجتمع، والتي يؤخذ بعين الاعتبار في دراستها المنظومة القيمية التي ترسم معالم الأخلاق للمجتمع، كما أن ما تهتم به الديموغرافيا كخصائص وكمعايير تصنيفية تهتم به أيضا السوسيولوجيا بالإضافة إلى العمل الميداني أيضا، علاوة على أن الديمغرافيا تشارك السوسيولوجيا خاصية الولادة الحديثة كعلم قائم بداته، فكلاهما ظهرا في أواسط القرن التاسع عشر، فالسوسيولوجية مع أغيست كونت والديمغرافيا مع أشيل جولارد، وهذه النشأة المتقاربة في الزمن، تبين للوهلة الأولى مدى التداخل والترابط بين العلمين من جهة وبين الديمغرافيا وباقي العلوم الإنسانية من جهة اخرى، فكل الفلسفات والحضارات القديمة إلى يومنا الحالي قد اهتمت بتوضيح وتعديل المعايير والقيم التي ينبغي أن تكون أساس العلاقات بين مختلف أفراد المجتمع، كما ذهب بعضها إلى تحديد عدد السكان الضروري في المدينة، لأن ذلك العدد شديد الارتباط بقوة ورفاهية الدولة أو المدينة.
يمكن التأكيد على أن هناك شرطان أساسيان ساعدا في نشوء الديموغرافيا والسوسيولوجيا وغيرهما من العلوم الانسانية في القرن التاسع عشر.
الشرط الأول: يتجلى في تقدم وازدهار علم الديمغرافيا، ويفرض هذا في حد ذاته وجود حياة منظمة ومتطورة حتى يتسنى القيام بتعدادات سكانية مضبوطة ودقيقة، الشيء الذي تزامن مع ظهور نظام الحالة المدنية (Etat-civil)، بالإضافة إلى تقدم علم الرياضيات وحسابات الاحتمالات، مما ساعد كذلك على الدفع إلى الأمام بالتنبؤات المعتمدة على المعطيات الخاصة المجمعة بواسطة التعدادات السكانية والتي تعتبر أساس الديموغرافيا الحديثة .
الشرط الثاني: برز من خلال سيادة تعاليم فلسفات عصر الأنوار في القرن الثامن عشر (18م)، وكانت تسعى إلى الاصلاح السياسي والاجتماعي من خلال نشر وعي مفاده، أن الإنسان يستطيع بفضل تأثيره على الطبيعة تغير وتحسين مستوى ونمط عيشه، وهذا يعني أن الوضعية الحالية للإنسان، ليست في نهاية الأمر سوى نتيجة لإرادة جماعية لأعضاء المجتمع.
خلاصة القول أن السوسيولوجيا والديموغرافيا يقومان على تطلعين إنسانيين محضين:
الأول: هو الرغبة في فهم ومعرفة أحسن وأعمق للظواهر الإنسانية.
الثاني: هو وعي الإنسان بإمكانية تأثيره على المجتمع وتغييره.[1]
ان العلاقة بين الديموغرافيا وعلم الاجتماع هي علاقة وطيدة وقديمة، حيث أن طبيعة المشاكل الاجتماعية التي تؤسس لظواهر الاجتماعية هي مرتبطة بشكل أو بأخر بالظواهر الديمغرافية، فلا يمكن ان نتطرق لتيمة الهجرة كموضوع سوسيولوجي على سبيل المثال دون الإشارة بشكل أو بأخر لها كظاهرة سكانية،[2] باعتبارها(الهجرة) تلعب دورا بارزا في ارتفاع وانخفاض واعادة توزيع عدد السكان، وذلك للجمع بين العديد من المتغيرات من كلا المجالين بغية الوصول إلى تفسر وفهم شامل لها والظواهر الأخر التي ترتبط معها، “كظاهرة زراعة القطاني في حدائق الإقامات السكنية” التي تقتضي من دراسة الهجرة القروية، علاوة على هذا فالتقاطع بين الديمغرافيا وعلم الاجتماعي يتجلى أيضا من خلال التعاطي المزدوج لبعض النظريات الاجتماعية، نستحضر منها:
- النظرية الوضعية مع إميل دوركايم:
يؤكد إميل دوركهايم على الدور الايجابي لحجم السكان ونموه في تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي، حيث يرى أن الزيادة السكانية عاملا مهما لتقسيم العمل الاجتماعي، وهذا يمثل نقطة الانطلاق لسلسلة من الاصلاحات والتطورات في جوانب الحياة المختلفة،[3] كما ميز إميل دوركايم بين ارتفاع عدد السكان في القرى والأرياف وارتفاع عدد السكان في المدن، ففي الأولى تكون الألية هي النمو الطبيعي أما في المدن فيكون ذلك بفعل العامل الهجرة، ولم يقف إميل دوركايم عند هذا فحسب بل ربط هذه الزيادة في حجم السكان في المدينة بارتفاع الكثافة السكانية، لكون أن الأفراد في المدينة يعيشون بصورة متراصة بعضهم إلى جانب بعض في مساحات صغيرة مقارنة بحجم السكان والمساحة التي يشغلونها في القرية، فطبيعة الحياة في المدن وما تفرضه يدخل الأفراد في علاقات وروابط جديدة لتسهيل عملية تبادل الاعمال والأفعال فيما بينهم، فمن هذا المنطلق عملية تقسيم العمل تكون أكثر سلاسة وأوسع كلما ازداد عدد أفراد المجتمع، إذ تزداد حالات الاحتكاك والتماس والتفاعل فيما بينهم، الأمر الذي يساعدهم على رفع قدراتهم في تبادل الأفعال والأعمال، فتبعا لزيادة حجم السكان وكثافته وجد دوركايم بأنها يؤديان إلى تطور تقسيم العمل الاجتماعي مما يؤدي بدوره إلى سلسلة من التطورات الأخرى التي تمس مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، فالمجتمعات حسب دوركايم أصبحت أكثر تطور لأن الكثافة السكانية ازدادت.[4]
- نظرية كنجزلي ديفز:
اهتم كنجزلي ديفز هو الأخرى بموضوع السكان، وذلك من خلال مقاله “التغير والاستجابة في التاريخ الديمغرافي الحديث” حيث سيهتم بمسألة التغير الاجتماعي بربطه بتحقيق التوازن الاجتماعي، أي التوازن بين حجم السكان ومتطلبات البناء الاجتماعي وتحقيق الأهداف التربوية، والدينية، والترفيهية التي يرمي المجتمع إلى بلوغها، فكنجزلي ديفز يرى أنه كلما اختل هذا التوازن نتيجة لارتفاع عدد السكان، بدأ الأفراد في البحث عن ظروف جديدة لتكيف من خلال استجابات متنوعة سماها “المتغيرات الوسيطة” كتأخير سن الزواج، أو اللجوء إلى الإجهاض، أو تنظيم النسل،[5] كما أشار أيضا ديفز إلى أن انخفاض نسبة المواليد في الدول المتقدمة يعود الرفاهية المتزايدة التي صاحبت تلك المجتمعات والتي انعكست أثارها على الجانب الإنجابي لسكانها.
- النظرية الماركسية :
حيث يرى كارل ماركس أن النظام الشيوعي هو العلاج الوحيد لمشاكل الهشاشة والفقر، كما ربط ماركس ظهور المشكلة السكانية بمرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي وهي الرأسمالية الصناعية، هذا ما سيؤكده من خلال كتاباته وبشكل خاص كتاب “رأس المال” حيث أقر بأن الرأسمالية هي أساس الهشاشة والفقر والبؤس الناتج عنها، بالتالي فكارل ماركس يرى أن الفقر والبؤس هو ناتج بالأساس لطبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يسود في المجتمع، مما يعني أنه ماركس يعتبر أن الفائض السكاني هو اقتصادي قبل أن يكون ديموغرافي من جهة وهو نسبي من جهة ثانية، ويزول بزوال سببه الذي يتلخص في علاقات الاستغلال الرأسمالي، دون الحاجة إلى تدخل مباشر للحد من حجم السكان ومعدلات نموه.
- أرسن ديمون Arséne Dumont:
يعد أرسن ديمون ممن كان لهم السبق في تقعيد دراسة النمو السكاني في فرنسا، انطلاقا من نظريته “النظرية الاجتماعية الرأسمالية”، وتقوم على نقطتين أساسيتين وتتجلى الاولى في:
- كون أن هناك حتمية طبيعية لدى الانسان في التخطيط والتنظير والتنسيق والقيادة لعملية التقدم في المحيط الذي يعش فيه.
أما النقطة الثانية فتظهر في:
- محاولات الإنسان اليومية لخلق مزيد من الرفاهية له والأسرة وللمجتمع الذي ينتمي إليه، مع مراعاة الملاءمة بين النظام الطبيعي والنظام الاجتماعي، اللذان يدفعان الإنسان إلى العمل –بكل ما أوتي من جهد وعلم وقدرة وقوة- على إخضاع النظام الأول (النظام الطبيعي) إلى النظام الثاني (النظام الاجتماعي).
إن علاقة الإنسان منذ أن وجد، وهي تتميز بالجذب تارة وبالطرد تارة أخرى، بمعنى أن الإنسان يحاول دائما أن يخضع الطبيعة إليه ويسيطر عليها، لأنها المصدر الوحيد لإشباع حاجاته، بدءا من الحاجات الأولى الأساسية الفيزيولوجية إلى الحاجات الخامسة المتمثلة في حاجات تحقيق الذات وتنميتها.[6]
يتبن إذا من خلال هذا العرض المقتضب لهذه النماذج النظرية أن التغيرات السكانية كما تمت الاشارة إلى ذلك ترتبط بالظروف الاجتماعية المحيطة تبعا لتعدد الهيئات الاجتماعية التي يعيش فيها السكان. مما يعني أن التمايز الحاصل بين الديموغرافيا والسوسيولوجيا لا يمكن إنكاره أو تفاديه، بل أكثر من ذلك يمكن القول بأنهم وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يصب في قناة موحدة تجمع بين الموضوع والنظرية في تفسير علاقة الفاعل بالفاعل من جهة وبالفاعل بالمجتمع من جهة أخرى، كما أن من مظاهر التقاطع المعرفي بين هذين الحقلين الانطلاق الديموغرافيا كما في الدراسات الإمبريقية لظاهرة سوسيولوجية من تحديد المتغيرات المستقلة والتابعة والوسيطة، وترتبط المتغيرات السوسيولوجية بعلاقة وطيدة بالمتغيرات الديمغرافية، مما يتيح بسهولة تفسير وفهم العمليات والحقائق السكانية، لأن الأمر هنا لا يغدو أن يكون خارج الإطار المرجعي للنسق الاجتماعي العام، الذي يؤسس للعلاقة الدائمة والمستمرة بين الفاعلين في المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى يجب ألا ننسى أو نتجاهل منحى المتغيرات السوسيولوجية، والتي تساعد الباحث في دراسة الظاهرة السكانية على تحديد الطبقات الاجتماعية من خلال حيازة الموارد الاقتصادية، بمعنى أن الانتماء إلى طبقة اجتماعية في المجتمع رهين بحيازة موارد اقتصادية تؤهله فعليا إلى هذا الانتماء دون الاخر.[7] علاوة على هذا فالعلاقة بين الديموغرافيا والسوسيولوجيا تمتد إلى الجانب الميثودولوجي (المنهجي) أيضا، حيث نجد أن هذان الحقلان المعرفيان يتقاطعان في هذا المجال، فنجد المسح الاجتماعي مثلا يوظف فالدراسات السوسيولوجية والديموغرافية، خاصة تلك التي تهدف منها إلى تحديد طبيعة وخصائص التركيبة السكانية ومعرفة خصائصها، وتشخيص المجالات التي تشمل وتحدث فيها المشكلات التي يجب حلها.
المحور الثاني: الديموغرافيا وعلم السياسة
يؤرخ المفكرون للعلاقة الموجودة بين الديموغرافيا وعلم السياسة منذ الإرهاصات الأولى لوجود ظاهرة الحاكم والمحكوم،[8] فنجد أن الفكر السكاني كان حاضرا عند أفلاطون في خضم طروحاته الفلسفية والسياسية، فكان يناقش حجم السكان في علاقته بدولة المدينة وحكومتها، فيؤكد على ضرورية تدخل الحكومة القائمة في تنظيم حجم السكان، وذلك من خلال السهر على مراقبة علاقات الزواج مراقبة شديدة، بهدف محاصرة عدد السكان المرغوب في تواجده داخل المدينة،[9] لتفادي أي انفلات سواء على مستوى الزيادة أو النقص باعتبار ذلك يؤدي إلى خلل في استراتيجيات الحكماء في تنظيم المدينة. من هذا المنطلق سيحدد أفلاطون عددا لسكان دولة المدينة من خلال كتابه القوانين، فيرى أن العدد المناسب هو 5040 نسمة، مع نوع من المرونة في التعامل مع مستوى الزيادة والنقص، فيقر أفلاطون على ضرورة تدخل الدولة من خلال اعتماد سياسات وسن قوانين تنظيمية لتحديد سن الزواج وتحديد النسل وتنظيم هجرة وتحركات الأفراد هذا على مستوى الزيادة، أما في حالة النقص فتعتمد نفس السياسات والقوانين لكن بطريقة عكسية، كالتشجيع على الانجاب عن طريق رفع القيود عن سن الزواج…، فحسب أفلاطون فالعدد الأمثل الذي يجب أن ينحصر فيه عدد السكان في المدينة هو5040، دون احتساب النساء والأطفال والعبيد، حيث أن أفلاطون لا يعتبر أن هذه الفئة هي من السكان الأصلين في الدولة المدينة. متغير أخر اعتمده أفلاطون في تحديد متغير النقص العددي للسكان، وهو التجنيس بالنسبة للأجانب الراغبين في ذلك، كما تجده كذلك خاصة في كتاب “الجمهورية” يبحث عن النسل الممتاز وذلك عن طريق تحديد سن الزواج للذكور والاناث على حد سواء، فسن الزواج بالنسبة للذكور حددها فيما بين 35 و55 سنة، أما بالنسبة للنساء فبين 20 و35 سنة حتى يكون النسل ممتاز.[10] إن أفلاطون كان يؤمن بضرورة ومصداقية المحافظة على الحجم الأمثل للسكان، وذلك بممارسة ضغوطات ملزمة للسكان تحول دون أن يتجاوز حجمهم الحجم المرغوب فيه، من بين هذه الضغوطات (إضافة لما قيل) الإجهاض و وأد أو قتل الأطفال الذين يولدون مشوهين، علاوة على اعتماد نظام التوريث وهو نظام كانت تحافظ من خلاله الدولة على الحجم الأمثل لسكان عن طريق توريث الأب كل ممتلكاته لأحد أبنائه، في حيث يوزع بقيت أبنائه على الأسر التي لم يكن لها أبناء، وفحالة توفر فائض أكبر في عدد السكان يتم نقلهم إلى المستعمرات. كما أن هذا الاهتمام بالفكر السكاني عن طريق الحجم السكاني لم يكن حاضرا عند أفلاطون فحسب، بل نجده في اهتمامات أرسطو أيضا، حيث يؤكد هذا الاخير على ضرورة تحديد حجم السكان في دولة المدينة، ويقترح 100000 نسمة كعدد أمثل، على اعتبار أن هذا العدد هو الذي يتيح توفقا بين حجم السكان ومساحات الأراضي مما يؤدي إلى خير ورفاهية، كما دعا أرسطو الحكومة إلى اتخاذ اجراءات صارمة لتحديد عدد السكان كالإجهاض؛ وإعدام الأطفال ناقصي التكوين والمشوهين وفاسدي الاخلاق؛ وتحريم الزواج للشيوخ والعجزة وعلى من بلغوا 50 من العمر فما فوق، فحجم السكان حسب أرسطو يجب أن يكون دائما تحت السيطرة من أجل ضمان توفر الحاجيات الاساسية لسكان. إلا أن حضور الفكر السكاني في العلوم السياسية بالطابع الحديث المرتبط بتدبير شؤون الدولة وسياسات التوفيق بين حجم السكان وحجم الموارد الطبيعية وسن استراتيجيات تنموية، لم يتقوى إلا في بدايات القرن العشرين، خاصة مع ظهور ذلك التداخل الحاصل بين العلوم، من خلال الممرات والتقاطعات البحثية الأكاديمية، الأمر الذي من مجال السياسة والديمغرافيا يشتغلان على الإنسان في إيجاد طرق واليات عملية للانتقال من التقليد إلى التحديث، جعل معالم سياسة “استراتيجيات اقتصادية”، تعتمد في عمقها على التخطيط والتنظيم والتنسيق وترشيد الموارد، سواء المتاحة منها أو المبحوث عنها خارج الحدود الوطنية، من أجل بلوغ الغايات والمرامي الكبرى للتنمية المستدامة، التي يوضع/يوجد الإنسان ضمن أولوياتها، أي أن الإنسان موجود في رسم هذه السياسة كنقطة البداية وكنقطة النهاية، بمعنى أخر تبدأ من الإنسان وتنتهي عند الإنسان، مركزة في عملية ترسيخها على مراعاة الحاجات الإنسانية لصيانة كرامة وحفظ حقوقه مقابل واجباته.[11] في هذا السياق نستحضر بعض نماذج لسياسات السكانية التي نهجتها بعض الدول نذكر منها:
- السياسة السكانية لليابان:
حيث نهجت الحكومة اليابانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية سياسة سكانية ترمي لخفض معدلات الولادات، فكانت من أوائل الحكومات التي أباحت الإجهاض، فقد كانت بعض عمليات الإجهاض تجرى في اليابان للأمهات الحوامل حتى في الشهر السابع، وكانت تكلفة الإجهاض منخفضة جدا وكانت التكلفة الفعلية تزيد على 1000 ين ياباني ولكن المرأة الراغبة فيها تدفع حوالي 200 ين فقط، وكثيرا ما كانت العمليات تجري بلا مقابل أو في حدود 15 ين فقط،[12]كما أن الحكومة اليابانية عملت على نشر مجموعة من الوحدات الصحية لإجراء عمليات الإجهاض، ليبلغ عددها 128000 عملية سنة 1958، ليتم فيما بعد الاعتماد بشكل أساسي على استخدام وسائل منع الحمل بدلا من أسلوب الاجهاض، نتيجة لهذه السياسة السكانية انخفض معدل الزيادة الطبيعية في اليابان من 209 في الألف عام 1947- 1949 إلى حدود 10 في الألف في الخمسينات، كما ارتفعت نسبة التعليم وانتهت الأمية فيها تقريبا، كما أن 82% من أطفال اليابان في عام 1970 كانوا يتابعون تعليمهم إلى مراحل فوق مستوى التعليم الإجباري (كان يمتد التعليم الاجباري في اليابان في هذه المرحلة تسع سنوات).
- السياسة السكانية في مصر:
بدأ مند عام 1975 النظر إلى المشاكل مرتبطة بحجم السكان من منظور طبي، حيث بدأ التفكير خفض معدلات المواليد من خلال برنامج تنظيم الأسر، وقد أتخذ لتحقيق هذا الهدف وسيلتان هما الاعلام ونشر الوعي بالمشكلة من ناحية، وتوفير وسائل تنظيم النسل وسبل الحصول عليها من ناحية أخرى، كما أعلنت الحكومة المصرية أنذلك عن سياسة قومية لسكان تطبق في عشرة أعوام، وتستهدف خفض معدلات المواليد بواقع 1في الألف سنويا، وقد استندت هذه السياسة إلى مدخل اقتصادي اجتماعي ترى أنه الذي يؤثر في الخصوبة وترى أن الوصول إلى المعدلات المستهدفة يتحقق من خلال تسعة عوامل هي:
- الارتقاء بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسر؛
- التعليم وخاصة التعليم الوظيفي؛
- الارتقاء بمكانة المرأة وزيادة نصيبها في الأنشطة الاقتصادية ذات الأجر؛
- المكننة الزراعية؛
- خفض معدلات وفيات الأطفال وتحسين مستوى التغذية وصحة والبيئة؛
- اتساع مظلة التأمينات الاجتماعية
- وجود إعلام واعي ينشر الثقافة السكانية؛
- توفير خدمات فعالة لتنظيم الأسر تتكامل مع الخدمات الصحية.
سنوات بعد ذلك ستقرر سياسة سكانية جديدة سنة 1986 حيث ستهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف وهي:
- الاعتراف بحق كل أسرة في تقرير عدد الأطفال الذي تراه مناسبا لها، كما من حقها أن تحصل على معلومات ووسائل تمكنها من تحقيق هدفها في إطار الدين وقيم المجتمع الحضاري والاجتماعي.
- لا يجوز اللجوء إلى الإجهاض أو التعقيم كوسائل لتنظيم النسل.
- حق الانتقال والهجرة الداخلية والخارجية مكفول لكل مواطن.
- تتبنى السياسات السكانية نظام الحوافز الإيجابية التي تعتمد على إثارة اهتمام الفرد والمجتمع، كما تتجنب السياسة الحوافز السلبية أو العقابية.
- رفع مستوى السكان تعليميا وحضاريا وصحيا يساعد الفرد على أن يكون طاقة إنتاجية.
- تتولى وحدات الإدارة المحلية تنفيذ كل البرامج المتعلقة بالسياسة السكانية.
- تشجيع الجهود التطوعية والمشاركة الشعبية في حل المشكلات.
كما حددت السياسة السكانية في إطارها الأخير أحد عشر برنامجا يمكنها من أن تسهم في تحقيق أهدافها وهو:
- نشر خدمات تنظيم الأسرة وتحسينها خاصة في الريف.
- تدعيم الخدمات الصحية لخفض معدلات وفيات الأمومة والطفولة.
- إعداد برامج تعتمد على الاتصالات المباشر بدلا من وسائل الإعلام الجماهيرية وتهدف تلك الرامج إلى تغيير في القيم والعادات بما يؤدي إلى تغيير السلوك الإنجابي.
- أن يصبح المسجد مركزا إشعاعيا تقدم منه الخدمات الصحية والاجتماعية إلى جانب وظيفته الدينية.
- تطوير برامج التربية السكانية وتقديمها في كل مرحل التعليم
- رفع مكانة المرأة وتشجيع مشاركتها في الحياة العامة
- وضع استراتيجية واضحة لإعادة توزيع السكان في مصر تهدف إلى توازن نسبي في هذا التوزيع بين كل من الدلتا والوادي من ناحية والصحاري المصرية من ناحية أخرى.
- رفع مستوى الريف المصري من خلال برامج التنمية الشاملة لتحسين القرية المصرية بما يحد من الهجرة من الريف إلى المدينة.
- الحد من عوامل الجذب إلى المدن الكبيرة وبخاصة العاصمة وذلك عن طريق وقف وتوسيع الصناعة في القاهرة الكبرى.
- وضع خطة للقوى العاملة ترتبط بسياسات التعليم والتدريب لمواجهة الطلب الحقيقي على مختلف فئات العمالة في أسواق العمل سواء داخل مصر أو خارجها.
- القضاء على الأمية عن طريق الاستيعاب الكامل لكل الأطفال في سن التعليم الاجباري، والعمل على وقف الانقطاع والهدر المدرسي.[13]
نستنتج إذا من هدين النموذجين لسياسات السكانية، أن حضور الفكر السكان يكتسي أهمية كبيرة في وضع الاستراتيجيات ورؤى السياسية والتنموية سواء قربة المدى منها والمتوسطة والبعيدة.
المحور الثالث: الديموغرافيا بعلم الاقتصاد
يعتبر العامل الاقتصادي في شموليته من المتغيرات الهامة لظواهر الديموغرافية، كما رسم سياسات تنموية للنهوض باقتصاديات الفئات الاجتماعية لساكنة منطقة ما يتطلب دراسات ديموغرافية دقيقة، وتكتسي مشروعية علمية وتبنى على معطيات وبيانات مستمدة من واقع هذه الفئات الاجتماعية، بهدف جعل استراتيجية التنمية الاقتصادية خاضعة للقياس في مراحلة التقييم وعرض النتائج، للوقوف على النسب المئوية في تقدم التنمية الاقتصادية عبر تنزيل المشاريع التنموية للفئات المستهدفة،[14] ومن أبرز المفكرين الذين ربطوا بين السكان والاقتصاد نذكر:
- توماس مالتوس Thomas Robert Malthus[15]: يرى مالتوس أن الزيادة في عدد السكان تشكل خطرا على الدولة، فقوة الانتاج الطبيعي(الأرض) أقل بكثير من قوة وانتاج الإنسان، فالتزايد في عدد السكان يقوم أساسا على التزايد في وسائل العيش ليصل في الأخير إلى أن كل تحسن في مستوى المعيشة سوف يكون صعبا ما دام هذا التحسن يرافقه تزايد في عدد السكان، الشيء الذي جعله يعتبر أن قدرة السكان على التزايد أعظم من قدرة الأرض على إنتاج وسائل العيش للإنسان،[16] فمالتوس يعد من السباقين لإثارة مشكلة الموارد الغذائية/الطعام، في علاقتها بالتزايد السكاني، فالعالم حسب نظرية مالتوس معرض لمشاكل كثيرة منها على وجه الخصوص المجاعة، لان كمية الغذاء ستتناقص بشكل كبير وتقل معها الوسائل الناجعة والقادرة على حل الأزمات، إلا أن السؤال الذي يطرح هنا هو لماذا لم يصل العالم بعد لهذه الأزمة وهذه المشاكل؟. للإجابة عن هذا السؤال ننطلق من قاعدة فكرية قدمها مالتوس ترى أن هناك مجموعة من العوائق تحول دون ذلك وهي: الموانع أو العوائق الوقائية؛ أي التي تعمل تقليص نسبة الولادات في المجتمع، انطلاقا من ضبط أخلاقي كالامتناع عن الزواج أو الزواج المبكر مع الحفاظ بسلوكيات التعفف طيلة مرحلة التأجيل، فالامتناع عن الزواج أول تأجيله مع الاقلاع على أي سلوك جنسي يعد بمثابة الحل الأمثل للحد من التزايد المهول للسكان حسب ومالتوس، وهو من الموانع الوقائية التي يمكن من خلالها التغلب على حجم السكان، ومطابقتهم لحجم الانتاج الزراعي والغذائي لضمان رفاهية وسعادة المجتمع. الموانع أو العوائق الإيجابية؛ المتمثلة في ثلاث أخطار يمكن أن تعمل بشكل طبيعي على تقليص وانخفاض عدد السكان من خلال تأثيرها على عدد الوفيات، وهي الجوع والمرض والحرب، فهذه الزوايا الثلاث للأخطار تساهم بشكل بليغ في رفع مستوى الوفيات في المجتمع مما يخفف الضغط على وسائل العيش. إضافة لما قيل هناك موانع أو عوائق أخرى يمكننا نعتها بالأخلاقية؛ وهي موانع متعلقة بالجانب الأخلاقي وترتبط برؤية الإنسان ووضعه الاقتصادي، بمعنى هل يتوفر على إمكانيات اقتصادية تؤهله إلى الزواج، وفتح بيت وتكوين أسرة وإشباع حاجات أفراد هذه الأسرة في المستقبل؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس أن يتزوج الرجل وينشأ أسرة ما دام أنه ليس هناك ما يمنع ذلك أما إذا كان العكس، أي أنه لا يتوفر على أدنى الامكانيات التي تؤهله لذلك، فعليه أن ينصرف عن الزواج إلى أجل مسمى، أو أن يتزوج عندما يفقد القدرة على الإنجاب، لكن عليه ألا ينزلق في الرذيلة، بمعنى أن يتحصن ضد المغريات خاصة الجنسية، لأن حقيقة طبيعة هذه الغريزة، لاتشبه إلى حد كبير غريزة الأكل والشرب، لأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عنهما، لكن غريزة الجنس يمكن للإنسان أن يتجاوزها بقليل من الورع والتقوى وكبح النفس، والابتعاد عن المغريات الجنسية في الواقع المعاش، لأن غريزة الجنس يمكن تأجيلها وليس القضاء عليها، لأن الهدف منها هو الانقسام والتوالد والاستمرار والبقاء في الكون.[17] صفوة القول فالحجم السكاني حسب مالتوس مرتبط أشدى الارتباط بحجم الموارد الطبيعية، وأن أي اختلال في ميزان عدد السكان مقابل كمية الغذاء يقابله أزمة في المجتمع.
- دافيد ريكاردو David Ricardo:[18] يرى ريكاردو الزيادة في السكان دون أن يقابل ذلك زيادة في الأراضي الصالحة للزراعية… يؤدي إلى ظهور مجموعة من المشاكل المرتبطة بالغلة والتي تأثر بدرها على مسألة التنمية الاقتصادية.
- جون ستيوارت ميل [19]John Stuart Mill: حيث كان يرى أن استمرار النمو السكاني سيؤدي إلى زيادة المعروض من الأيدي العاملة في المجتمع، وبالتالي سيؤدي ذلك بعد فترة طويلة إلى هبوط الأجر الذي يحصل عليه العامل إلى دون مستوى الكفاف، وذلك لكون أن مستوى الأجر الذي يحصل عليه العامل حسب جون ستيوارت ميل يعتمد على معدل السكان مقسوما على رأس المال.
يتبن إذا أن هناك علاقة رصينة بين الديموغرافيا من جهة وعلم الاقتصاد من جهة ثانية، هذا الترابط الذي هو ناتج من كون عنصر السكان من العناصر المهمة في النسيج الاقتصادي داخل المجتمع، إضافة إلى القدرة الشرائية للفرد ودخل الأفراد.
خلاصة
هكذا فهناك تقاطعات معرفية مهمة بين مختلف الحقول في العلوم الإنسانية والاجتماعية، هذه التقاطعات التي حاولنا تسليط الضوء على جزء منها من خلال إبراز علاقة الديموغرافيا بعلم الاجتماع من خلال تسليط الضوء على الاهتمامات المشتركة بين هذين الحقلين خاصة على مستوى الموضوع والمنهج، والعلم السياسة؛ من خلال إبراز الدور المحوري الذي تلعبه الديموغرافيا في بلورة الاستراتيجيات والرؤى السياسية، وعلم الاقتصاد وذلك من خلال الإشارة إلى الحضور القوي للفكر الاقتصادي عند الديمغرافيين؛ الفكر السكاني عند الاقتصادين.
البيبليوغرافيا
كتب باللغة العربية
- أحمد على إسماعيل، “أسس علم السكان وتطبيقاته الجغرافية”، دار الثقافة للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الثامنة، 1998.
- السيد عبد العاطي السيد، “علم اجتماع السكان”، دار المعرفة الجامعة، مصر، 2004.
- جان ديفينو، “مدخل إلى علم الاجتماع”، ترجمة فاروق الحميد، دار الفرق للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، دمشق، الطبعة الأولى 2011.
- جمعة دمين رحومه سعد، “السياسات السكانية في مصر”، الطبعة الاولى، مطبعة البحرية، القاهرة، 2007.
- شوقي عطية، “علم السكان في البحث التطبيقي والإحصائي”، دار نلسن للطباعة والنشر، لبنان، بيروت،2017.
- صلاح قنصوه، “الموضوعية في العلوم الإنسانية(عرض نقدي لمناهج البحث)”، دار التنوير، بيروت، لبنان، ط2،1984.
- عبد الباقي زيدان، “أسس علم السكان”، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1976.
- عبد الحميد لطفي، وحسن الساعاتي، “دراسات في علم السكان”، دار المعارف، مصر، الطبعة الاولى.
- عبد الهادي محمد فتحي، المصادر المرجعية في العلوم الاجتماعية، دار غريب للطباعة والنشر، بدون مكان، الطبعة الأولى، 1995.
- فراس عباس فاضل البيان، “الاتجاهات النظرية الحديثة في علم اجتماع السكان موضوعات في تطور تطور النظرية السكانية”، طريق المعرفة، بدون طبعة، بدون سنة.
- لوسيان غولدمان، العلوم الإنسانية والفلسفة، ترجمة مجمد برادة، المجلس الأعلى للثقافة، بدون، لطبعة الثانية، 1996.
- مولاي عبد الكريم القنبعي الإدريسي، “الديموغرافيا دراسة في علم السكان”، منشورات قطب البحث: التراب، المجتمع والتنمية المستدامة، جامعة محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، الطبعة الأولى،2020.
كتب باللغة الفرنسية
- EMILE DURKHEIM,« les règles de la méthode sociologique », PUF,PARIS, 19ème ,Ed, 1977.
[1]– عبد الكريم القنبعي الإدريسي، ” الديموغرافيا دراسة في علم السكان”، مرجع سابق، ص53.
[2]– الظاهرة السكانية بصفة عامة مجموع الحقائق السكانية التي يمكن مشاهدتها، كأعداد السكان، وكثافتهم وتوزيعهم الجغرافي، بالإضافة الخصائص السكانية الأخر كالنمو والزيادة والهجرة والوفيات (أنظر القسم الأول).
[3]– عبد الحميد لطفي، وحسن الساعاتي، “دراسات في علم السكان”، دار المعارف، مصر، الطبعة الاولى، ص 16.
[4]– فراس عباس فاضل البيان، “الاتجاهات النظرية الحديثة في علم اجتماع السكان موضوعات في تطور تطور النظرية السكانية”، طريق المعرفة، بدون طبعة، بدون سنة، ص 70.
[5]– جمعة دمين رحومه سعد، “السياسات السكانية في مصر”، الطبعة الاولى، مطبعة البحرية، القاهرة، 2007، ص61.
[6]– عبد الكريم القنبعي الإدريسي، ” الديموغرافيا دراسة في علم السكان”، مرجع سابق، ص56.
[7] – نفس المرجع، ص 37.
[8]– نفس المرجع،ص58.
[9]– كانت تشكل المدن في الحضارة اليونانية بكونها مدنا وتتمتع بسيادة خاصة مثل “أثينا”، “أيونيا”، إسبارطا”… .
[10]– السيد عبد العاطي السيد، “علم اجتماع السكان”، دار المعرفة الجامعة، مصر، 2004، ص 31.
[11]– عبد الكريم القنبعي الإدريسي، ” الديموغرافيا دراسة في علم السكان”، مرجع سابق، ص59.
[12]– أحمد على إسماعيل، “أسس علم السكان وتطبيقاته الجغرافية”، دار الثقافة للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الثامنة، 1998، ص 266.
[13]– نفس المرجع، ص284-285.
[14] – عبد الكريم القنبعي الإدريسي، ” الديموغرافيا دراسة في علم السكان”، مرجع سابق،58.
[15] – باحث سكاني واقتصادي إنجليزي ولد سنة 1766 وتوفي سنة 1834 بانجلترا.
[16] – عبد الباقي زيدان، “أسس علم السكان”، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1976، ص47.
[17] – عبد الكريم القنبعي الإدريسي، ” الديموغرافيا دراسة في علم السكان”، مرجع سابق، ص 65.
[18] – اقتصادي إنجليزي ولد سنة 1772 وتوفي سنة 1823.
[19]– فيلسوف واقتصادي إنجليزي ولد سنة 1806 بلندن وتوفي سنة 1873 بفرنسا.