منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

شروط وجوب الجمعة (3) الحلقة الرابعة| سلسلة فقه الجمعة

شروط وجوب الجمعة (3) الحلقة الرابعة| سلسلة فقه الجمعة/ للأستاذ عبد الجليل مبرور

0

شروط وجوب الجمعة (3) الحلقة الرابعة| سلسلة فقه الجمعة

للأستاذ عبد الجليل مبرور

المطلب الثاني: اختلاف الجمهور في حد القرب من المصر

ذهَب جمهور العلماء إلى القول بأنَّ الجمعة واجبة على أهل المصر والقرية، وعلى من كان خارِجَهما مع القرب دون البعد.
ثم اختلفوا في حدِّ هذا القرب على أقوال:

فقيل: تجب الجمعة على من يبعد عن البلد بنحو فَرْسخ فأَقلَّ؛ أيْ: ما يقارب ثلاثة أميال، ولا فرق في ذلك بين المصر والقرية والأخصاص (أيْ: بيوت الجريد أو القصَب)، وهو مذهب المالكية[29]، والحنابلة[30]، واختاره ابن تيميَّة[31].

وقيل: العبرة بسماع النِّداء، وهو مذهب الشافعية، وهو رواية عن أحمد[32].

وقيل: يلزم المجيء إلى الجمعة مَن كان منها بحيث إذا زالت الشمس وقد توضَّأ قبل ذلك، دخل الطريق أثر أول الزَّوال، ومشى مُترسِّلاً، ويُدرك منها ولو السَّلام، سواء سمع النداء أو لم يسمع، وهو مذهب الظاهريَّة[33].

وقيل: مَن آواه اللَّيل إلى أهله، رُوي ذلك عن ابن عُمَر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع مولى ابن عمر، وكذلك قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور[34]، وقيل غير ذلك[35].

أدلَّة القائلين بأنها تجب الجمعة على من يبعد عن البلد بنحو فرسخ فأقل

  • الدليل الأول:

عن جابر -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- خطيبًا يوم الجمعة، فقال: “عسى رجلٌ تحضره الجمعة وهو على قَدْر ميل من المدينة، فلا يحضرها”، ثم قال في الثانية: “وهو على قدْر ميلين من المدينة فلا يحضرها”، ثم قال في الثالثة: “وهو على قدر ثلاثة أميال من المدينة، فلا يحضر الجمعة، ويطبع الله على قَلْبه”؛ ضعيف جدًّا[36].

  • الدليل الثاني:

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “ألاَ هل عسى أحَدُكم أن يتَّخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذَّر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تَجِيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يَشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتىَّ يُطبَع على قلبه”؛ صحيح لغيره[37].

  • الدليل الثالث:

حدَّثنا أحمد بن صالح، قال: حدَّثنا عبدالله بن وَهْب، قال: أخبرني عمرُو بن الحارث عن عُبَيدالله بن أبي جعفر أنَّ محمد بن جعفر بن الزبير حدَّثه عن عروة بن الزُّبير عن عائشة زوجِ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قالت: كان النَّاس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار، والعرق فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا”[38].
وقد جاء تحديد العوالي عند البخاري، قال: حدَّثنا أبو اليَمَان قال: أخبرنا شُعَيب عن الزُّهري، قال: حدَّثني أنس بن مالك، قال: كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يصلِّي العصر والشمسُ مرتفعة حيَّة، فيذهب الذَّاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه[39].

  • الدليل الرابع: آثار عن بعض الصحابة:

عن عمرو بن شُعَيب أنَّ عبد الله بن عمرِو بن العاص “يكون بالوهط، فلا يَشْهد الجمعة مع الناس بالطَّائف، وإنما بَيْنه وبين الطائف أربعة أميال أو ثلاثة”[40].
عن ثابتٍ البُنَاني قال: كان أنَسٌ “يكون في أرضه، وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال، فيَشهد الجمعة بالبصرة”[41].

أدلة القائلين: إنَّ العبرة بسماع النداء

استدلوا بعموم قوله -جلَّ وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9].

عن عبدالله بن عمرو أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “الجمعة على من سمع النداء”؛ حديث حسَن.

قالوا: إنَّ القاعدة تقول: المُطْلق يَجري على إطلاقه ما لم يَقُم دليلُ التقييد نصًّا أو دلالة، ومعناه أنَّه يجري على إطلاقه ما لم يَقُم دليل التقييد نصًّا؛ أيْ: لفظًا، وذلك بأن يكون مقرونًا بنحوِ صفة، أو حال، أو إضافة، أو مفعول، أو نهي، أو شرط، أو استثناء، أو دلالة، كقول المكاري لآخَر: اشْتَرِ لي بغلاً أو بغلة، فاشترى له بغلة[42].

وتقييد سماع النِّداء بمسافة معيَّنة لم يثبت بدليل، وهو مَحْض تحَكُّم، واختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- دليل على عدم ورود مقيَّد، فوجب العمل بالحديث على إطلاقه، والمعتبر مَظِنَّة السَّماع غالبًا، إذا كان المؤذِّن صَيِّتًا، والرِّياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتَفِية.

وحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “ألاَ هل عسى أحدكم أن يتَّخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذَّر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يَشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتى يُطبع على قلبه”.

فيه تنبيه على أن الميل والميلَيْن مِنْ مظنَّة القرب، ومِن مظنَّة سماع النِّداء غالبًا، وليستْ نصًّا فيما زاد عنها أنه لا تجب عليه.

أدلَّة القائلين: يلزم المجيء إلى الجمعة مَن كان منها بحيثُ إذا زالتِ الشمسُ وقد توَضَّأ قبل ذلك، دخل الطريق إثْرَ أول الزوال، ومشى مُترسِّلاً، ويُدرك منها ولو السَّلام، سواء سمع النداء أو لم يسمع.

قالوا: إنُّ النِّداء قد لا يَسمعه؛ لِخَفاء صوت المؤذِّن، أو لحمل الرِّيح له إلى جهة أخرى، أو لحوالة رابية من الأرض دونه من كان قريبًا جدًّا، وقد يسمع على أميال كثيرة إذا كان المؤذِّن في المنار والقرية في جبل والمؤذِّن صَيِّتًا والرِّيح تحمل صوته.

أنَّ قول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “أتَسمع النِّداء؟” قال: نعم، قال: “أَجِب”، أنه إنَّما أمره بالإجابة لحضور الصَّلاة المدعوِّ إليها، لا مَن يوقن أنه لا يدرك منها شيئًا، هذا معلوم يقينًا، ويبيِّن ذلك إخبارُه -عليه السَّلام-بأنه يهمُّ بإحراق منازل المتخلِّفين عن الصلاة في الجماعة لغير عُذر.

فإذْ قد اختلفوا هذا الاختلافَ، فالمرْجوع إليه ما افتَرَض الله الرجوعَ إليه مِنَ القرآن والسُّنة، فوَجدنا الله –تعالى- قد قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة: 9]، فافترض الله –تعالى- السَّعي إليها إذا نُودي لها، لا قبل ذلك، ولَم يَشترط تعالى مَن سمع النداء ممن لم يسمعه، والنِّداء لها إنما هو إذا زالت الشمس، فمن أَمَر بالرَّواح قبل ذلك فرضًا فقد افتَرَض ما لم يفترضه الله –تعالى- في الآية ولا رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فصحَّ يقينًا أنه تعالى أمر بالرَّواح إليها إثْرَ زوال الشمس، لا قبل ذلك، فصحَّ أنه قبل ذلك فضيلة لا فريضة، كمن قرَّب بدنة، أو بقرة، أو كبشًا، أو ما ذُكِر معها.

وقد صحَّ أمر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مَن مشى إلى الصَّلاة بالسكينة والوقار، والسَّعي المذكور في القرآن إنما هو المَشْي لا الجري، وقد صحَّ أن السَّعي المأمور به إنما هو لإدراك الصَّلاة لا لِلْعَناء دون إدراكها، وقد قال -عليه السَّلام -: “فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا”، فصحَّ قولُنا بيقين لا مِرْية فيه[43].

أدلة القائلين: إنها تجب على مَن آواه الليل إلى أهله

عن أبي هريرة عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “الجمعة على مَن آواه اللَّيل إلى أهله”؛ ضعيف جدًّا[44].

والمعنى أنَّها تجب على مَن يمكن الرُّجوع إلى أهله قبل دخول الليل، واستُشكل بأنه يَلزم منه أنه يجب السَّعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية[45].

  • الراجح

والذي يظهر أن الرَّاجح هو أنَّ العبرة بسماع النِّداء، أمَّا تحديده بفرسخ فغير منصوص، والقاعدة تقضي بأنَّ المُطْلَق يجري على إطلاقه ما لم يَقُم دليل التقييد نصًّا أو دلالة، خصوصًا وأنَّ الصحابة قد اختلفوا في تقدير حدِّ القرب، فوجب الرُّجوع إلى النَّصِّ، أمَّا تحديدها بوقت الزوال فغير منضبط؛ لكون الناس ليسوا سواء في معرفته.

وأما من قال: إنها تجب على من آواه الليل إلى أهله، فمَحْجوج بِوَهاء طرُق الحديث، فبَقِي –إذًا- النِّداء الذي هو شعار المسلمين، وبه أُنيطَ الحضور إلى صلاة الجماعة، فمِن باب أولى أن تُناط به الجمعة، فمن سَمِعه وجب عليه إجابته، وقد يَسمع على أميال كثيرة إذا كان المؤذِّن في المنار، والقرية في جبل،

والمؤذِّن صيِّتًا، والرِّيح تحمل صوته، خصوصًا في عصرنا الحالي وقد اختُرِعت مُكبِّرات الصوت التي قد ملأَتْ جنبات المدن، فأصبح النِّداء يبلغ أميالاً، والتقييد بغير نصٍّ صحيحٍ صريح فيه تحجيرُ الواسع، والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم.


[29] “المدوَّنة” (1 / 233) “أقرب المسالك” (25) “التلقين” (131) “الكافي” في فقه أهل المدينة (69) “حاشية الصَّاوي” (1 / 325) “مواهب الجليل” (2 / 527) “الإكليل” (72).
[30] “المُحرَّر في الفقه” (142) المقنع مع “الشَّرح الكبير” مع “الإنصاف” (5 / 161) “المُغْني” (3 / 208) “كشَّاف القِناع” (1 / 503).
[31] “مجموع الفتاوى” (24 / 68).
[32] “المقنع، مع الشَّرح الكبير، مع الإنصاف” (5 / 165).
[33] “المُحلَّى” (5 / 526).
[34] “فتح الباري” لابن رجب (8 / 161).
[35] “المجموع” (4 / 354) “فتح الباري” لابن رجب (8 / 161): “وقالت طائفة: تجب الجمعة على من بينه وبينها أربعة أميال؟ وروي عن ابن المنكدر والزهري وعكرمة وربيعة.
ورُوي عن الزهري -أيضًا- تحديده بستة أميال، وهي فرسخان.
وروي عن أبي هريرة، قال: تُؤتى الجمعة من فرسخين.
خرجه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف.
ورَوى عبدالرزَّاق بإسناد منقطع، عن معاذ، أنه كان يقوم على منبره، فيقول لقوم بينهم وبين دمشق أربع فراسخ وخمس فراسخ: “إن الجمعة لَزِمَتكم، وأن لا جمعة إلاَّ معَنا”.
وبإسناد منقطع، عن معاوية، أنه كان يأمر بشهود الجمعة مَن بينه وبين دمشق أربعة عشر ميلاً.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.