(خطبة) أعني على نفسك بكثرة السجود (صفة السجود ومواضعه وفضله)
(خطبة) أعني على نفسك بكثرة السجود (صفة السجود ومواضعه وفضله)/ الشيخ عبد الله بنطاهر التناني
(خطبة) أعني على نفسك بكثرة السجود
(صفة السجود ومواضعه وفضله)
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني
الحمد لله حمدا يفوق حمد كل محمود، شرع لنا التقرب إليه سبحانه بكثرة السجود، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا والد ولا مولود، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله شرع الشرائع وحدد الحدود، فنصره الله تعالى على أعدائه بملائكة وجنود، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا في نشر الإسلام كل مجهود، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى اليوم الموعود.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
لقد كثر حديث الناس في هذه الأيام عن السجود لله تعالى شكرا، والله سبحانه شرع لنا السجود وجعله من أفضل العبادة، ومن رموز قمة الخضوع والخشوع؛ فتعالوا بنا اليوم بالمناسبة لنتحدث عن السجود؛ عن كيفيته وصفته، وعن أقسامه ومواضعه، وعن فضله وثوابه:
● أما كفيته وصفته؛ فالسجود يكون بالنية مع إخلاص العبادة لله تعالى وبوضع سبعة أعضاء على الأرض: الجبهة مع الأنف، والكفين، والركبتن، وأطراف القدمين؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهﷺ قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين».
وينبغي أن يُبعد الرَّجُل في السجود يديه عن جسمه فلا يلصقهما بجنبيه إلا إذا كان في صف فيه زحام، أما المرأة فالمطلوب منها أن تجمع يديها لأن ذلك أستر لها؛ يقول الإمام ابن عاشر في نظمه “المرشد المعين”:
والبطنَ من فخد رجالٌ يبعدون * ومرفقا من ركبة إذ يسجدون
لما روى الإمام مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «إذا سجدْتَ فضع كفيك وارفع مرفقيك»، وفي رواية: «أن رسول اللهﷺ كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه»، ولما روى الإمام مسلم عن ميمونة رضي الله عنها قالت: «كان النبيﷺ إذا سجد لو شاءت بَهْمَةٌ (أي: شاة صغيرة) أن تمر بين يديه لَـمَرَّتْ».
ولا يبسط الساجد يديه على الأرض؛ لما روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسطْ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب».
● وأما فضل السجود؛ فإن له فضلا كبيرا وثوابا عظيما؛ يدل عليه ما يلي:
1) أن السجود علامة يعرف بها المؤمنون مدح الله تعالى به الصحابة رضوان الله عليهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ …}
2) من أراد أن يكون قريبا من الله تعالى ليستجيب دعاءه فعليه بكثرة السجود؛ فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول اللهﷺ قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء».
3) من أراد أن يحصل على أحب الأعمال إلى الله تعالى فعليه بكثرة السجود؛ فقد روى الإمام مسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: سألت رسول اللهﷺ عن أحب الأعمال إلى الله فقال: «عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة».
4) من أراد أن يكون مرافقا للنبيﷺ في الجنة فعليه بكثرة السجود؛ فقد روى الإمام مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: «كنت أبيت مع رسول اللهﷺ فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود».
5) حتى لو وقع أن مسلما كثرت ذنوبه حتى دخل النار فإنه سيخرج منها بسبب ما قدم من كثرة السجود؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل أن النبيﷺ قال بأن الله تعالى يوم القيامة: «أمر الملائكة: أن يخرجوا من كان يعبد الله؛ فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود…؛ فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود».
● وأما مواضع السجود؛ فالسجود مشروع في ثلاثة مواضع:
• الموضع الأول: هو جزء من الصلاة وركن من أركانها؛ فلا تصح أي صلاة إلا بسجدتين في كل ركعة؛ إلا في صلاة الجنازة فلا سجود فيها ولا ركوع.
• الموضع الثاني: عند قراءة القرآن الكريم أو عند الاستماع إليه، وهو سجدة واحدة؛ تسمى سجود التلاوة يسجدها القارئ والمستمع ولا تصح إلا بالطهارة.
• الموضع الثالث: سجود الشكر؛ عند حلول نعمة أو دفع نقمة؛ والمشهور في المذهب المالكي أن سجود الشكر غير مشروع(1)؛ بل يستحب لمن أصاب خيرا أو ذهب عنه شرٌّ صلاة ركعتين؛ لأن النبيﷺ كان إذا حزبه أمر (أي: إذا نزل به مهم أو أصابه غم)(2) فزع إلى الصلاة؛ أي: فرَّ إليها واستغاث بها؛ لقوله تعالى: {وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ}، وكانﷺ يقول لسيدنا بلال: «أرحنا بها يا بلال».
هذا هو المشهور في المذهب؛ ولكن نقل الإمام أبو الحسن ابن القصار من المالكية عن الإمام مالك أنه قال: “لا بأس به”(3)، وبه قال عبد الملك بن حبيب الأندلسي، وقال الإمام أبو الحسن اللخمي: “هو الصواب”(4)؛ ودليلهم ما يلي:
– الحديث المتفق عليه أن كعب بن مالك لما بشره رسول اللهﷺ بتوبة الله سبحانه عليه بقوله: {وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْ} خر ساجدا ولم ينكر عليهﷺ ذلك؛ وذلك حين تخلف بدون عذر عن غزوة تبوك(5).
– ما روى النسائي: أن النبيﷺ قال: «سجدها داود توبة، ونسجدها شكرا»(6).
– وما روى الترمذي وحسَّنه عن أبي بكرة: «أن النبيﷺ أتاه أَمْرٌ فسُرَّ بِه فَخَرَّ ساجدا»(7).
– وما روي عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه لما بلغه فتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب سجد شكرا لله عز وجل(8).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛
أيها الإخوة المؤمنون؛ هل يحتاج سجود الشكر للطهارة أم يجوز للمسلم أن يسجد من غير وضوء؟ قال بعض العلماء: لا يصح إلا بالطهارة، بينما قال البعض الآخر: يصح بغير طهارة؛ “وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراط الوضوء وطهارة الثياب والمكان لسجود الشكر”(9)؛ لأنه إذا تركه حتى يتوضأ أو يتطهر أو يتيمم زال سر المعنى الذي شرع سجود الشكر من أجله(10)، وهو السجود عند حدوث الفرح مباشرة، والبحث عن الوضوء يؤخره عن وقته وسببه.
وبناء عليه؛ فإن المسلم حينما يفاجأ بشيء يفرحه؛ ماديا كان أو معنويا، دينيا أو دنويا فلا بأس أن يسجد لله تعالى؛ كما قال الإمام مالك؛ فلأن يسجد لله تعالى خير له من الرقص والصراخ.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على الرسولﷺ…
الهامـــــــــش:
( ) وبه قال أبو حنيفة، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن فقال: لا بأس به. انظر: كتاب التجريد للقدوري: (2/667).
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: (1/377).
(3) وهو مستحب عند الشافعية والحنابلة. انظر: الحاوي الكبير للماوردي: (2/205)، والمغني لابن قدامة: (1/449).
(4) التبصرة للخمي: (2/435).
(5) صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب حديث كعب بن مالك… (رقم 4156)، وصحيح مسلم: كتاب التوبة: باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه: (رقم2769).
(6) سنن النسائي: كتاب الافتتاح: باب سجود القرآن السجود في “ص”: (رقم957).
(7) سنن الترمذي: كتاب السير: باب ما جاء في سجدة الشكر: (رقم 1578).
(8) مصنف عبد الرزاق: (3/358): (رقم 8637)، ومصنف ابن أبي شيبة: (5/340): (رقم 5963)»، والسنن الكبرى للبيهقي: (2/519): (رقم 3940).
(9) من كلام الشوكاني في نيل الأوطار: (3/127).
(10) من كلام ابن ناجي في شرحه على متن الرسالة: (1/221)، وانظر: مواهب الجليل للحطاب: (2/62).