خلف العتمة…مغرب منسي!
خلف العتمة...مغرب منسي!/الدكتور الطيب الرحماني
خلف العتمة…مغرب منسي!
الدكتور الطيب الرحماني
ذكّرنا جميعا زلزال الحوز بالواقع المرير للمناطق البعيدة عن المركز، ونقلت الشاشات مشاهد البيوت الطينية المنهارة، والمنافذ الضيقة الوعرة تكسوها أكواب الصخور والأتربة، لقد عاين الشهود والمشاهدون حقيقة الوضع وأكدوا هشاشته، وكُشِف المستور من مآسي الناس هناك، كيف يحيون؟ وأين يسكنون؟ وماذا يأكلون؟ وكيف يدرسون؟ وكيف يتنقلون؟…
إنه واقع عايَشه معظم رجال ونساء التربية والتعليم، فقد كان من قدرهم في هذا الوطن الحبيب أن يخوضوا تجارب الاغتراب في هذه المناطق البعيدة المهمشة عبر أجيال وأجيال، وهي تجارب تتفاوت درجات قسوتها بتفاوت الظروف الطبيعية والاجتماعية لتلك المناطق، فكلما ابتعدت عن المراكز الحضرية، كلما ارتفع مؤشر القسوة، وازدادت الحياة تعقيدا…
سمّه ما شئت: المغرب المنسي أو المغرب العميق، تتعدد الأسماء، وتتلون الشعارات، وتطول الخطب والمرافعات، والحقيقة واحدة، الواقع هو الواقع…مناطق متوارية خلف قمم الجبال والمرتفعات، أو في أعماق الوديان والمنحدرات، أو على قارعة السهول المنبسطات…قاسمها المشترك أنها بعيدة عن المراكز الحضرية الإدارية والاقتصادية فلا يؤبه لها، هي أسماء وأعداد، وهي أيضا منهل للثروات الطبيعية لكنها مهمشة.
ها هنا رجل تعليم مر من ذاك السبيل نسرد قسطا من تجربته، نتأمل بين ثناياها معاناة الناس في المغرب المنسي:
إنه يضع قدمه لأول مرة في بلدة نائية، فهو يتلمس سبيله، بلدة صغيرة تلفها الجبال الشاهقة ويشقها طريق جنباته متآكلة فهو كخيط أسود رثّ، وعلى جنباته محلات تجارية بسيطة ومؤسسة تعليمية ومحطة وقود، وبنايات بسيطة متفاوتة ومتداخلة، وأزقة ضيقة متربة…كل شيء ما زال على طبيعته الأولى لولا يد إنسان يحاول أن ينحت الحياة على الصخر الأصم…أهي نهاية السير أم ما زالت أمامه أميال؟! يستفسر أحد البقالة عن وجهته ـ حيث المؤسسة التعليمية التي سيشتغل بها ـ فيجيبه بعفوية ويبشره بأن يوم الاثنين هو موعد السوق الأسبوعي في هذه البلدة هناك يجد وسيلة النقل التي سوف تُقله إلى حال سبيله.
يتحرك بضعة أمتار مشيا في زقاق ضيق فيسمع أصوات الباعة، وتدله أحوال الناس على مكان السوقي الأسبوعي: دواب محملة بالخضر والمؤن، أناس يسيرون في كل اتجاه يحملون أغراضا ابتاعوها من السوق، عربات متهالكة تقلع في اتجاه الطريق الرئيسي… وهو يمشي في صمت يهاجمه هدير الأماني والتوقعات: ليتها كانت محطة الوصول! ترى ما الوسيلة فلا حافلات ولا سيارات أجرة هنا؟! إذا كانت هذا هو المركز فكيف هي الدواوير النائية؟!…
ساحة ضيقة على طبيعتها الأولى يعرض بها الباعة بضائعهم من الخضر والفواكه، تلفها بنايات عشوائية ذات محلات تجارية بسيطة، وبين هذا وذاك سيارات متهالكة، ودراجات ودواب…
مرة أخرى يستفسر أحد المتبضعين عن وسيلة النقل إلى وجهته فيدله عليها: سيارات من نوع فورد (ford transit) تتوقف على عَجَل، يسمر عينيه على إحداها مشدوها: يتدافع الركاب وهم يحملون أمتعتهم للفوز بفرصة تنقل ما دام اليوم سوقا أسبوعيا، ومنهم من اختار الصعود أعلى العربة حيث سبائك حديدية متينة معدة لهذا الغرض، تتحمل العربة مرغمة أكداسا من الناس والمؤمن داخلها وأعلاها، يتفحص السائق حمولة عربته بارتياح بعد أن لم يعد ثمة متسع للمزيد، ثم يدير المحرك فتنطلق العربة مخلفة هديرا ودخانا وعجاجا…
يعود الرجل إلى ذاتك، يسترجع، يحوقل، يتوقع، يتفحص الزمن، يقارن بين مكان ومكان، وزمان وزمان…ثم يأخذ العزم على مواصلة السير مهما كان، يقصد الباعة فيشتري ما تيسر من حاجيات ثم يعود إلى المكان مصمما على خوض تجربة التنقل في هذه الوسيلة، بعد مدة تتوقف عربة فورد زرقاء على شاكلة ما أبصرته عيناه قبلُ فيتدافع مع المتدافعين ويحوز موطئ قدم له في جوف هذا القبو المتهالك: ألواح خشبية ضيقة محدودة، وأغراض متراكمة، روائح بشرية كريهة، عرق وإرهاق، ثرثرة…
يدور المحرك وتنطلق العربة وتبدأ الرحلة وسط ضجيج ممزوج: هدير المحرك، وأصوات احتكاك، وطقطقات، وأناس يثرثرون بلا مبالاة، وسائق مستعجل يطلق عنان موسيقاه المفضلة…
طريق غير معبدة تخترق الهضاب والأودية، على مسافة ما يقرب من عشر كيلومترات قطعتها به العربة قبل الوصول إلى وجهته، وتفاوتت خلالها حدة الضجيج بتفاوت الطبيعة الجغرافية، فأحيانا تتحرك العربة بعنف نتيجة الأحجار الناتئة، وأحيانا تكاد تتوقف، وأحيانا تنطلق كالسهب غير مبالية بالأتربة الواقعة عليها…
تتوقف العربة، فيتدافع بعض ركابها نزولا دون أن يتململ آخرون…الرحلة ما زالت مستمرة، وشريط الطريق هذا يعبر مزيدا من التجمعات والدواوير المنسية خلف مرتفعات الأطلس لعشرات الكيلومترات…
تتوقف العربة مرة أخرى فينزل الرجل مع النازلين، يترجل، يتأمل المكان، يبدو له جمال الطبيعة وبساطة العيش: سلسلة جبلية بقمم شامخة يقدمها سفح يشقه وادي كبير مكسو بمساحات خضراء محدودة، وعلى ضفته اليمنى تجمع سكني طيني بدائي عدا المؤسسة التعليمية ذات الطلاء الأحمر الفاتح المستقرة أعلى الهضبة كقبة البرلمان.
يتأمل المباني فيبدو لك وضع غير مألوف: المباني طينية بسيط مترامية ذات جدر قصيرة، والأزقة مهملة تتخللها أخاديد الأودية والشعاب عدا شريط طريق رئيسي غير مسفلت…أهي عجلة الزمن متوقفة؟ أم هي ترجع القهقرى؟ هو إنسان هذا المكان راغب في الإبقاء على تراث أجداده أم هي العين بصيرة واليد قصيرة؟ أين البناء الإسمنتي المتين؟ وأين الأزقة المنتظمة والشوارع المبلطة والمحلات التجارية ومرافق الخدمات الاجتماعية والصحية…؟ أين المقاهي والملاعب…؟ كيف يتصرف سكان هذه البلاد في الطوارئ؟ كيف ينامون؟ وماذا يأكلون وماذا يشربون؟ كيف يدرسون؟ كيف يتنقلون؟!…
يحدث نفسه، يذكرها بالمثل العربي: ليس من رأى كمن سمع! بالأمس كنت تسمع عن مثل هذه الأمكنة واليوم أنت تحط بها الرحال…تصير الحكاية واقعا…تبدأ تجربة جديدة…يفتح المجهول أبوابه، ويغدو لزاما معاينة ما خلف العتمة…
تَمضي الليلة الأولى والثانية اليوم والشهر والسنة فيعتاد المكان ويرتبط به حسا ومعنا، ويتأكد لديه أن هذه المناطق المعزولة ذات واقع مشترك: جبال ووديان، ومنابع وأشجار، وحقول وبساتين…تتناثر عبرها مبان طينية يشقها ممر متسع في أحسن أحواله لعربة واحدة، وينتهي إلى تفرعات لا تعبرها إلا الدواب…
سلسلة جبلية تمتد على مساحة واسعة من البلاد…جمال طبيعي يخفي خلفه معاناة إنسان كان قدره أن ينشأ هنا، ويتجرع مرارة الظلم والحرمان، فلا يمد عينيه إلى ما صنعه الناهبون بالبلاد والعباد، ولا يطالب بحق، تُجتنى من أرضه خيرات يُذهب بها بعيدا ولا يعود عليه منها فتيل ولا قطمير…
جمال طبعي، مناظر خلابة، وموارد هائلة، وأناس من معدن نفيس، يحبون كتاب الله، ويحافظون على الفطرة، لكن يعانون في صمت…ينحتون معايشهم بأيديهم: يبنون بالطين، يحرثون ويزرعون…
يرحل العابرون الغرباء ويبقى إنسان ذاك المكان صامدا مقاوما كأنما شد إلى أرضه شدا تغطيه غشاوة الأمية وقلة ذات اليد فلا يرفع صوتا يطالب بالخبز، ولا ينادي بمطلب…تأتي ساعة الرحيل، فيقفل المعلم المغترب راجعا مقتربا فكأنما هي ساعة خلاص من ظروف قاسية، نعم إن المكان الجديد كغيره من مدن المغرب وقراه فيه ما فيها من تهميش وسوء تدبير، ولكن على أقل تقدير هناك أمل، وبعض الشر أهون من بعض، هناك نواقص كثيرة لكن هناك أساسيات الحياة.
ها قد حل قدر الله، وزلزلت الأرض زلزالها، وانهارت مباني الطين على ساكنيها، وسدت المنافذ والمعابر…ها قد انكشف المستور، وانجلت للقريب والبعيد حقيقة واقع الإنسان والمكان في المغرب المنسي فهل من معتبر؟!