منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

النسب بين الادعاء البيولوجي والاعتبار الشرعي

النسب بين الادعاء البيولوجي والاعتبار الشرعي/ الدكتور محماد رفيع

0

النسب بين الادعاء البيولوجي والاعتبار الشرعي

بقلم: الدكتور محماد رفيع

إن ما يجري من نقاش في موضوع نسب ابن الزنى “لأبيه البيولوجي”، معظمه يجري على غير هدى منهجي ولا سداد علمي، لصدوره من غير أهل التخصص في الموضوع، ولجريان كثير من الكلام فيه لأغراض غير علمية ولا عملية، وعليه فإني أذكر باللوازم المنهجية والنواظم المعرفية التي عليها يتأسس القول في هذه النازلة:

في اللوازم المنهجية:

أولاها: موضوع النسب من حيث هويته العلمية، شرعي وقضية فقهية، وواحدة من مواد مدونة الأسرة المغربية المستخلصة من الفقه الإسلامي، وهذا يستلزم من الناحية المنهجية أن تكون مقاربة الموضوع من حيث التأصيل مقاربة فقهية تشريعية.

ثانيها: المحظورات الشرعية المقررة ثابتة في نصوصها، لا تصير مشروعة بمجرد ظهور منتهكيها في المجتمع بكثرة، فالشرع حاكم وإليه الاحتكام في الوقائع والنوازل.

ثالثها: لزوم التمييز بين النكاح والسفاح، فالنكاح علاقة شرعية قانونية حضارية إنسانية بين الرجل والمرأة، ما ينتج عن تلك العلاقة من أولاد تكون تحت رعايتهما ومسؤوليتهما، بينما السفاح علاقة زنى بين رجل وامرأة، وهي جريمة يعاقب عليها الشرع والقانون.

رابعها: وجوب التمييز بين مسؤولية الزانيين عن جريمة الزنى التي اقترفاها، وبين ما نتج عن تلك الجريمة من مولود بريء تجب رعايته واحتضانه وتمتيعه بكل حقوقه من قبل الدولة، فقد أرجأ النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على المرأة الحامل من سفاح، إلى ما بعد الوضع والفطام رعاية لحقوق الطفل، بل إن الولد الذي وضعته زوجة هلال ابن امية، التي قذفها بشريك بن سمحاء، ونزلت في قصتهما آية اللعان، حظي هذا الولد بكل رعاية حتى صار أميرا على مصر، وما كان ينسب إلا لأمه، رغم معرفة أبيه البيولوجي، وهو شريك بن سمحاء، كما في روى أبو داود في سننه.

في النواظم العلمية:

لا يستقيم القول في النسب دون تأسيسه على النواظم الآتية:

أولاها: النسب في الشريعة ليس مجرد حكم فقهي جزئي، ولا أدبا من الآداب الشرعية، وإنما هو كلية مقصدية ضرورية من الضروريات الخمس التي ثبتت باستقراء أدلة الشريعة في مختلف أبوابها، بحيث ائتلفت وتعاضدت حتى كان لها بهذا الائتلاف من القوة ما لا يكون لها بالافتراق، وعليه فهي كلية حاكمة على ما تحتها من جزئيات وتفاصيل.

ثانيها: النسب منوط بالنكاح لا بالسفاح، فالشريعة أقرت مسلكا واحدا ووحيدا في التواصل الجنسي بين الرجل والمرأة، وهو الزواج، وهو المحدد لمفهوم الأبوة، فلا أبوة خارج الزواج، فالحديث الصحيح الشهير الذي أخرجه الشيخان وأصحاب السنن: ” الولد للفراش وللعاهر الحجر” حسم موضوع النسب أنه لا يكون إلا في إطار الزواج، وأن دعوى النسب البيولوجي من أمر الجاهلية الذي ألغته الشريعة تماما، وذلك واضح من سياق ورود الحديث السابق الذي أخرجه الألباني بسند حسن في هداية الرواة، وفيه أن رجلا حاول أن يحتج أمام النبي صلى الله عليه وسلم بالأبوة البيولوجية في نسبة ولد الزنى له، حين قال: “يا رسول الله إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية”، فكان الجواب النبوي: ” لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر”.

فليس الشأن في الإثبات البيولوجي للنسب، إنما الشأن كل الشأن في شرعية العلاقة الجنسية التي نتج عنها المولود من عدمها، يشهد لذلك الفصل النبوي في النزاع الذي نشأ بين سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ولد ولدته أمة زمعة على فراشه، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم لمن ولد له على فراشه، فقال: “الولد للفراش”، رغم ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم من شبه بين بين الولد “وأبيه البيولوجي” عتبة، لذلك أمر سودة بنت زمعة أن تحتجب منه، والحديث في الصحيحين وغيرهما.

ثالثها: ادعاء النسب أو إنكاره كبيرة من الكبائر أحاطها الشارع بكبير العناية، ولا سبيل للترخص فيه والتساهل، فالولد إما أن ينسب لأبيه الشرعي الذي ولد له في بيت الزوجية، أو هو أخ في الدين، وليس ولد الشارع، أو الولد المتخلى عنه أو المشرد أو غيرها من مسميات وتصنيفات البؤس والظلم والحرمان التي نسمعها اليوم للأسف، نتيجة تخلي الدولة عن مسؤوليتها في رعاية مواطنيها، فالله تعالى يقول في سورة الأحزاب: “ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ”.

فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم ادعاء النسب أو إنكاره من الكفر، فقد أخرج ابن ماجة في سننه: ” باب من أنكر ولده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُفْرٌ بامرئٍ ادِّعَاءُ نَسَبٍ لا يعرفه أو جَحْدُهُ وإن دق “، فقد رتبت الشريعة اللعان إجراءات دقيقة وخطيرة في حالة حرجة، وهي حالة إنكار الزوج نسب ما ولدته زوجته.

تلك هي اللوازم والنواظم التي أرى أن يستهدى بها في مناقشة هذا الموضوع، من أجل أن يستقيم القول، ويثمر النقاش، فتتميز الحجة من الشبهة، والحمد لله رب العالمين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.