منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

هل اليهود والنصارى مؤمنون؟ – مقاربة قرآنية

هل اليهود والنصارى مؤمنون؟ – مقاربة قرآنية/الدكتور عبد الله الجباري

0

هل اليهود والنصارى مؤمنون؟ – مقاربة قرآنية

بقلم: الدكتور عبد الله الجباري

أجمع علماء المسلمين عبر العصور على أن مصطلح المؤمنين أو أهل الإيمان لا يطلق إلا على من اعتنق الدين الذي جاء به الرسول الخاتم سيدنا محمد ﷺ، بأركانه وشعائره واعتقاداته، أما غيرهم من الملاحدة والبوذيين واليهود والنصارى فلا يطلق عليهم إلا “الكفار”.

على هذه المفاصلة الواضحة كان علماؤنا رحمهم الله، وبها كانوا يدينون، إلى أن وقع التلاقي الحضاري بين المسلمين والغربيين، ووقع الانبهار بالآخر والذوبان فيه، فـ”اجتهد” بعض مثقفي المسلمين وعلمائهم لإدخال اليهود والنصارى ضمن حظيرة أهل الإيمان، مع أن العكس غير صحيح، لأن أحبار ورهبان الغير لا يعتبرون المسلمين من أهل الإيمان، ويرمونهم عن قوس واحدة بالكفر، ويعتبرونهم من أهل الجحيم، ﴿وَقَالُوا۟ لَن یَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ ‌إِلَّا ‌مَن ‌كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ﴾ [البقرة: 111]

وقد طفت على السطح في الأيام الأخيرة دعوى “إيمان” اليهود والنصارى، ووجدت لها مناصرين من أهل الثقافة الإسلامية، ولم يعدموا نصوصا قرآنية يستدلون بها على دعواهم، وأهمها عندهم:

  • أولا: قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ‌وَٱلَّذِینَ ‌هَادُوا۟ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِءِینَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحࣰا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة: 62].
  • ثانيا: قوله سبحانه ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ‌وَٱلَّذِینَ ‌هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبِءُونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحࣰا فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [المائدة: 69] .

ومنهم من اعتبر النصين قاطعين في الدلالة على “إيمان” اليهود والنصارى، بدليل أنهم مشمولون بوصف “مَن آمن بالله واليوم الآخر” أولا، وأنهم “لا خوف عليهم ولا هم يحزنون” ثانيا.

وقد روج بعض المصريين لهذه الفكرة في الثلاثينيات من القرن الماضي، وتولى الرد عليها الإمام الحافظ المتقن عبد الله بن الصديق الغماري المغربي برسالة لطيفة الجرم، قوية الدليل، سماها “التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله واليوم الآخر”.

الشذوذ في الرأي:

الآيتان المذكورتان أعلاه من آي الذكر الحكيم، التي يقرأها ويحفظها علماء الإسلام منذ عصر الصحابة إلى اليوم، ولم يقل أحد من السلف بإيمان اليهود والنصارى استنادا عليهما، فكيف خفيتا عليهم؟

والغريب أن بعض متكلمي عصرنا جعلوهما آيتين قطعيتين في إيمان القوم، والنص القطعي هو النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل معنى ثانيا، وكيف يكون قطعيا واضحا صريحا ولم يقل به أحد من قبل؟

نعم، لو كان من الخفي الذي قد لا يُفهم إلا باستعمال الفكر والتعمق في الفهم، فإنه قد يخفى على المتقدمين ويستنبطه المتأخرون، أما القطعي فلا.

المنهج الانتقائي:

اقتنص مُمَيّعو العقيدة هاتين الآيتين لاعتبار أنهما خلعتا على اليهود والنصارى صفة الإيمان، لأنهم ممن يؤمنون بالله وباليوم الآخر، وأن هذا يكفي في الإيمان المنجي لصاحبه، بدليل أنهم “لا خوف عليهم ولا هم يحزنون” كما قدمنا.

لكن هؤلاء القائلين بإيمان اليهود والنصارى تعمدوا إغفال نصوص قرآنية أخرى تصرح بكفر هؤلاء المذكورين، وهذا من التدليس، والمجدد لا يكون مدلسا، بل كان لزاما عليهم أن يذكروا النصين الأولين والنصوص الأخرى، ويجتهدوا في الجمع والترجيح.

ومن النصوص المصرحة بكفر اليهود والنصارى:

– الآية الأولى: ﴿یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ ‌لِمَ ‌تَكۡفُرُونَ بِآیَٰتِ ٱللَّهِ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ﴾ [آل عمران: 70]

– الآية الثانية: ﴿قُلۡ یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ ‌لِمَ ‌تَكۡفُرُونَ بِآیَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِیدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 98]

وفي هاتين الآيتين تصريح بكفر أهل الكتاب، وتعجُّب من كفرهم، لأنهم على علم بصدق الرسول والرسالة الخاتمة وفاقا لما في كتبهم، وما ذلك إلا لعنادهم وعدم استسلامهم وإسلامهم لله.

ومن آيات الله التي كفروا بها سيدُنا محمد ﷺ، إذ هو من آيات الله العظمى.

– الآية الثالثة: ﴿‌وَلَوۡ ‌ءَامَنَ ‌أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۚ﴾ [آل عمران: 110]، وفي هذا النص توبيخ لليهود والنصارى على كفرهم، وهو نص صريح في كفرهم وعدم إيمانهم، لأنهم لم يؤمنوا بسيدنا محمد ﷺ، وهذا الجزء من الآية عام في أهل الكتاب، وتكملتها خاص بمن آمن بآية الله العظمى سيدِنا محمد ﷺ، حيث انتقل الله تعالى من أسلوب التوبيخ إلى الثناء، فقال عز وجل: ﴿مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾، فالمؤمنون من أهل الكتاب هم المصدقون للنبي ﷺ والمؤمنون بصدق نبوته، كعبد الله بن سلام والنجاشي وغيرهما، أما من لم يصدق بنبوته فهو كافر، فتكون الآية على هذا التقدير: “ولو آمن أهل الكتاب” بنبوة سيدنا محمد ﷺ “لكان خيرا لهم” وأفضل، “منهم المؤمنون” كعبد الله بن سلام الذي آمن بنبوة النبي الخاتم، “وأكثرهم الفاسقون” الذين أنكروا نبوته.

– الآيتان الرابعة والخامسة: ﴿یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ ‌قَدۡ ‌جَاۤءَكُمۡ ‌رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا…﴾، وهذه من آيات سورة المائدة، وبعدها بأربع آيات قال سبحانه: ﴿یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ ‌عَلَىٰ ‌فَتۡرَةࣲ ‌مِّنَ ٱلرُّسُلِ…﴾، وفيهما التصريح بأن سيدنا محمدا ﷺ مبعوث إليهم، لكن أغلبهم لم يؤمنوا به، لذا قالت الآية الثالثة: “وأكثرهم الفاسقون”.

وفي الآية الأولى من آيتي سورة المائدة، قال تعالى: ﴿یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ ‌قَدۡ ‌جَاۤءَكُمۡ ‌رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲۚ قَدۡ جَاۤءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَٰبࣱ مُّبِینࣱ یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَیُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۚ قُلۡ فَمَن یَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡءًا إِنۡ أَرَادَ أَن یُهۡلِكَ ٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ ﴾ [المائدة: 15-17] وبيانها كالآتي: ﴿یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ اليهود والنصارى ﴿‌قَدۡ ‌جَاۤءَكُمۡ ‌رَسُولُنَا﴾ الخاتم ﴿یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲۚ﴾ وبعدها تبين الآية وصف الرسول المبعوث وكتابه، فالرسول نور، وكتابه كتاب مبين واضح جلي ﴿قَدۡ جَاۤءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَٰبࣱ مُّبِینࣱ﴾ وظيفته الأساس ﴿یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَیُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطࣲ مُّسۡتَقِیم﴾، وهذا جلي واضح في أن من لم يتبع النبي الخاتم ﷺ والقرآن فإنه لم يتبع سبل السلام، ولم يخرج من الظلمات الكفرية، ولم يتبع الصراط المستقيم، ﴿لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۚ﴾ وهذا تصريح بالكفر لم يبق معه أي لبس.

– الآية السادسة: ﴿وَلَا تُجَٰدِلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا ‌بِٱلَّتِی ‌هِیَ ‌أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَأُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدࣱ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَٰبَۚ فَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَمِنۡ هَٰۤؤُلَاۤءِ مَن یُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَمَا یَجۡحَدُ بِءَایَٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلۡكَٰفِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 46-47]

وهذه الآية وثيقة الصلة بموضوعنا، ويجب التوقف عندها بأناة وعدم تسرع، فقوله تعالى ﴿وَلَا تُجَٰدِلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا ‌بِٱلَّتِی ‌هِیَ ‌أَحۡسَنُ﴾ لو كان الكتابيون مؤمنين لما كان لمجادلتهم وجه سائغ، لأن المجادلة تكون مع المخالف، ولا تكون مع الموافق، ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنۡهُمۡۖ﴾استثنى الذين ظلموا من المجادلة بالتي هي أحسن، والذين ظلموا من الكتابيين لهم معنيان:

  – الأول: هم الذين تبنوا عقائد شركية، فانتقلوا من التوحيد إلى الشرك، يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلشِّرۡكَ ‌لَظُلۡمٌ ‌عَظِیمࣱ﴾.

 – الثاني: هم الذين تبنوا الغدر واختاروا المواجهة المسلحة مع المسلمين، فلا يواجَهون بالمجادلة بالحسنى، بل بالقتال، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: ﴿قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ‌ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].
وبعد أن استثنى الذين ظلموا من المجادلة بالحسنى، وجه الله تعالى خطابه لأهل الكتاب غير الظالمين بقوله: ﴿وَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا﴾ من التوراة والإنجيل ﴿وَأُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ﴾ من القرآن ﴿وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدࣱ﴾ وهذه عقيدة التوحيد، وهي المشترك بين اليهودية والنصرانية والإسلام، ﴿وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ مستسلمون مذعنون، ثم التفت الخطاب إلى سيدنا محمد ﷺ ﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَٰبَۚ﴾ وهو القرآن الكريم، ﴿فَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ من السابقين ﴿یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ﴾ لأنهم قرأوا البشارة به في كتبهم، كورقة بن نوفل ومن قبله، ﴿وَمِنۡ هَٰۤؤُلَاۤءِ﴾ الكتابيين المعاصرين لسيدنا محمد ﷺ ﴿مَن یُؤۡمِنُ بِهِۦۚ﴾ كعبد الله بن سلام وغيره، ﴿وَمَا یَجۡحَدُ بِآیَٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ وهنا وصفان للذين لم يتبعوا النبي ﷺ والقرآن والشريعة الخاتمة، وهما الجحود والكفر، ومع هذه الآية، فإن العصريين يصرون على وصف اليهود والنصارى بأنهم من المؤمنين.

– الآية السابعة: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ‌ٱلَّذِینَ ‌نَافَقُوا۟ یَقُولُونَ لِإِخۡوَٰنِهِمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَئِنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ﴾ [الحشر: 11]، نصت الآية على الأخوة بين المنافقين وأهل الكتاب، وهذه الأخوة لا علاقة لها بالنسب، بل هي أخوة الكفر، فالمنافقون كفار مشركون، وأهل الكتاب كفار يهود، و”من” الواردة في ﴿مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ ليست للتبعيض، بل هي بيانية، وقد وردت في نصوص متعددة، منها: ﴿‌مَّا ‌یَوَدُّ ‌ٱلَّذِینَ ‌كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِینَ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ [البقرة: 105]، وقوله تعالى:﴿‌لَمۡ ‌یَكُنِ ‌ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ مُنفَكِّینَ حَتَّىٰ تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡبَیِّنَةُ﴾ [البينة: 1]، وقوله تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌ٱلَّذِینَ ‌كَفَرُوا۟ ‌مِنۡ ‌أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ فِی نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِینَ فِیهَاۤۚ أُو۟لَٰۤئِكَ هُمۡ شَرُّ ٱلۡبَرِیَّةِ﴾ [البينة: 6]. وهذه آيات بينات تصرح بكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

– الآية الثامنة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُوا۟ بَیۡنَ ذَٰلِكَ سَبِیلًا أُو۟لَٰۤئِكَ هُمُ ‌ٱلۡكَٰفِرُونَ ‌حَقࣰّاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ أُو۟لَٰۤئِكَ سَوۡفَ یُؤۡتِیهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾ [النساء: 150-152]، وفي هذه الآية بيان جلي في عدم التمييز بين الرسل، لذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ﴾، واليهود والنصارى لا يؤمنون بسيدنا محمد ﷺ نبيا رسولا، فآمنوا برسولهم ولم يؤمنوا بجميع رسل الله، وزاد ذلك تأكيدا بقوله: ﴿وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ﴾ في الإيمان، فيؤمنون بالله دون رسله، ﴿وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ﴾ حيث يؤمنون بداود أو موسى أو عيسى ويكفرون بغيرهم، أو يؤمنون بالله واليوم الآخر ويكفرون بالرسول الخاتم، فهؤلاء ﴿هُمُ ‌ٱلۡكَٰفِرُونَ ‌حَقࣰّاۚ﴾، ومع هذا التصريح الصريح الفصيح، فإن قومنا يعتبرون اليهود والنصارى ممن يفرقون بين الله ورسله مؤمنين، ويعتبرون من يؤمن ببعض أركان الإيمان ويكفر ببعض مؤمنين، وهذا مخالف لقوله تعالى ﴿هُمُ ‌ٱلۡكَٰفِرُونَ ‌حَقࣰّاۚ﴾.

– الآية التاسعة: ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ ‌حَتَّىٰ ‌تَتَّبِعَ ‌مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَاۤءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِی جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرٍ﴾ [البقرة: 120]، ولو كان اليهود والنصارى من أهل الإيمان لاعتبروا المسلمين إخوانا لهم، ولمَا حرصوا أشد الحرص على التأثير عليهم لتبديل دينهم، وهو منطوق أيات أخر. كما أن الآية وصفت معتقدات اليهود والنصارى مجرد “أهواء”، وأن ما عليه الرسول الخاتم ﷺ هو “هدى الله”.

– الآية العاشرة: إذا بينت الآية التاسعة أن اليهود والنصارى لا يرضون للمؤمنين إلا أن يتبعوا دينهم وأهواءهم، فإن الآية العاشرة تبين أن اليهود والنصارى يعلنون العداوة الشديدة للمؤمنين، ﴿‌لَتَجِدَنَّ ‌أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّیسِینَ وَرُهۡبَانࣰا وَأَنَّهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [المائدة: 82]، فلليهود والنصارى عداوة للمسلمين المؤمنين، والفرق بينهما أن اليهود أشد عداوة، والنصارى أقل عداوة، ولو كانوا مؤمنين كما يدعي الإيمانيون المعاصرون لما كانوا للمؤمنين أعداء.

– الآية الحادية عشرة: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ ‌وَٱلنَّصَٰرَىٰۤ ‌أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِینَ﴾ [المائدة: 51]، الخطاب موجه إلى المؤمنين، ومضمونه النهي عن موالاة اليهود والنصارى، ولو كان هؤلاء من المؤمنين لكانت موالاتهم واجبة، ولما ساغ التحذير منها. وإمعانا في التحذير من هذا الانحراف العقدي، نبه الله تعالى من يتولهم بأنه منهم، وهذا صريح في المغايرة بين المؤمنين وبين اليهود والنصارى.

هذه بعض الآيات المصرحة بكفر اليهود والنصارى، وأنهم ليسوا مؤمنين.

و”الإيمان” الذي نتحدث عنه ليس حقيقة لغوية أو عرفية، بل هو حقيقة شرعية، لها ماصدقها وشروطها وأركانها، من لم يتلبس بها ولم تتلبس به فليس له في الإيمان حظ أو نصيب، ومن أهم الأركان التي لا يصح الإيمان بدونها: الإيمان بسيدنا محمد ﷺ، والتصديق برسالته، واتباعه، ونصرته، والإيمان بخاتميته، ومن خالف هذا كلاًّ أو جزءا فهو غير مؤمن قطعا وجزما.

العودة إلى استدلال التنويريين:

ذكرنا في البداية أن مدعي إيمان اليهود والنصارى يستندون إلى آيتين، وفيهما تصريح بأن الذين هادوا والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وبعيدا عن منهج الاقتناص والاجتزاء، فإننا نقرأ الآيتين في سياقهما القرآني.

قال تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ من اليهود والنصارى ﴿ءَامَنُوا۟﴾ هذا دليل على عدم إيمانهم، ولو كانوا مؤمنين لما علقت الآية إيمانهم على “لو” التي تفيد امتناع التحقق، ﴿وَٱتَّقَوۡا۟﴾ تعني ملازمة التقوى، أو الاتقاء بمعنى الاجتناب، ومعناه اجتناب إنكار نبوة سيدنا محمد ﷺ، ﴿لَكَفَّرۡنَا عَنۡهُمۡ سَیِّئاتِهِمۡ﴾ السابقة، لأن الإسلام يجب ما قبله، ﴿وَلَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِیمِ﴾، ومعناه أن اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بالرسالة الخاتمة ونبيها فإنهم لا يدخلون الجنة، ولا يتمتعون بنعيمها، وهذا عينه الذي يقول بخلافه بعض المعاصرين، اعتمادا على دعاوى سطحية، كعموم الرحمة الإلهية وسعتها، وغير ذلك، ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ﴾ وما فيهما من البشارة بالرسول الخاتم ووجوب اتباعه ﴿وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ﴾ في القرآن الكريم، ﴿لَأَكَلُوا۟ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةࣱ مُّقۡتَصِدَةࣱۖ﴾ طائفة قليلة مقتصدة، والاقتصاد ضد الإسراف والمبالغة، وهي إشارة إلى طائفة منهم ممن يقرون بالتوحيد، وممن آمنوا برسول الله ﷺ من معاصريه، ﴿وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ سَاۤءَ مَا یَعۡمَلُونَ﴾، وهم كثيرون بالمقارنة مع القليل المقتصدين، وهؤلاء ساء ما يعملون من قتل الأنبياء ومعاداتهم، أو ادعاء إلهيتهم، ثم بعد ذلك توجه الخطاب إلى النبي ﷺ ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ یَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِینَ﴾ والكافرون هنا هم أهل الكتاب، بدليل السياق، وهم المذكورون مباشرة في:

﴿قُلۡ یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَیۡءٍ﴾ من حيث الإيمان، فإنه لا يتحقق لكم ﴿حَتَّىٰ تُقِیمُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ﴾ وما فيهما من بشارة بالرسول الخاتم ﷺ، ﴿وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ﴾ في القرآن، ﴿وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم﴾ بخلاف الطائفة المقتصدة ﴿مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۖ﴾ وهذا واقع، فإن كثيرا من أهل الكتاب لم يؤمنوا بما أنزل إلى رسول الله ﷺ، بل عاندوا واستكبروا، فكان ذلك زيادة في الطغيان والكفر، ﴿فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِینَ﴾، وهذا تصريح بكفرهم، وهو تصريح لا يقبل احتمالا، بعد ذلك نصل إلى الآية التي يستدل بها أهل عصرنا على إيمان اليهود والنصارى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحࣰا فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾

وهذه الآية معها وقفات:

– الوقفة الأولى: هذه الآية تصف ــ ظاهريا ــ اليهود والنصارى بأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهناك آية أخرى تنفي عنهم ذلك، وهي قوله تعالى: ﴿قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ ‌وَلَا ‌بِٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ یُضَٰهِونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ یُوفَكُونَ ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَٰهࣰا وَٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [التوبة: 29-31]، وهذه الآية تتحدث عن اليهود والنصارى، بدليل الكلام عن الجزية، وهي ليست من أحكام التعامل مع المشركين، وخاتمتها صريحة في الحديث عن اليهود والنصارى، والنص صريح في أنهم “لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”، فوقع بينها وبين دليل المعاصرين تعارضا، فوجب الجمع بينهما.

– الوقفة الثانية: من المعلوم أن اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر، ولكنهم لا يؤمنون بباقي أركان الإيمان، ومنها ضرورة الإيمان بنبوة سيدنا محمد الخاتم ﷺ. ونظرا لتلازم أركان الإيمان، كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كعدم الإيمان، لذلك قال الله تعالى عنهم في آية الجزية: “الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”.

– الوقفة الثالثة: صرحت الآية التي يستدل بها المعاصرون أن اليهود والنصارى يؤمنون بالله، ولو كانوا يؤمنون بالله حقا لآمنوا برسل الله، لأنهم هم من عرّفوا الناس بالله وبضرورة الإيمان به، فكيف يؤمنون بالله ولا يؤمنون برسله؟ لذلك كان إيمانهم هباء، فقال عنهم الله تعالى في الآية الأخرى: “الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”.

– الوقفة الرابعة: الإيمان بالله ليس لقلقة لسان، وليس كلاما يقال صبحة وعشيا، بل هو اعتقاد قلبي، له لوازمه وشرائطه، من التزمها كان إيمانه حقيقةً، ومن لم يلتزمها كان إيمانه هباء منثورا، وهذا نص الآية الكريمة: ﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكࣱ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡاخِرَةِ ‌یُؤۡمِنُونَ ‌بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام: 92]، فالذين يؤمنون بالآخرة حقيقةً يؤمنون بالكتاب المنزل على سيدنا محمد ﷺ الذي أنذر أم القرى ومن حولها، ومن يؤمن بالكتاب يؤمن ضرورةً بمن جاء به، ومن لا يؤمن بالقرآن وبصاحبه فليس مؤمنا. لذلك لم يكن الوصف بالإيمان في آية المعاصرين مفيدا لدعواهم.

– الوقفة الخامسة: الوصف بالإيمان بالله وباليوم الآخر لا يعني أن الاقتصار عليهما ينجي صاحبه ويدرجه مع أهل الإيمان، بل إن ذكر هذين الركنين لا يعدو كونه من باب ذكر الجزء وإرادة الكل، فهو يذكر ركنين من أركان الإيمان ويقصد الإيمان بأركانه كلها، ولهذا نظائر في آيات أخر، منها:

1 ــ ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۚ﴾ [البقرة: 126]

2 ــ ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ وَلَا یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِیۤ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ یُؤۡمِنَّ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۚ ﴾ [البقرة: 228]

﴿قُلۡ یَٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَیۡءٍ﴾ من حيث الإيمان، فإنه لا يتحقق لكم ﴿حَتَّىٰ تُقِیمُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ﴾ وما فيهما من بشارة بالرسول الخاتم ﷺ، ﴿وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ﴾ في القرآن، ﴿وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم﴾ بخلاف الطائفة المقتصدة ﴿مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۖ﴾ وهذا واقع، فإن كثيرا من أهل الكتاب لم يؤمنوا بما أنزل إلى رسول الله ﷺ، بل عاندوا واستكبروا، فكان ذلك زيادة في الطغيان والكفر، ﴿فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِینَ﴾، وهذا تصريح بكفرهم، وهو تصريح لا يقبل احتمالا، بعد ذلك نصل إلى الآية التي يستدل بها أهل عصرنا على إيمان اليهود والنصارى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحࣰا فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾

وهذه الآية معها وقفات:

– الوقفة الأولى: هذه الآية تصف ــ ظاهريا ــ اليهود والنصارى بأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهناك آية أخرى تنفي عنهم ذلك، وهي قوله تعالى: ﴿قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ ‌وَلَا ‌بِٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ یُضَٰهِونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ یُوفَكُونَ ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَٰهࣰا وَٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [التوبة: 29-31]، وهذه الآية تتحدث عن اليهود والنصارى، بدليل الكلام عن الجزية، وهي ليست من أحكام التعامل مع المشركين، وخاتمتها صريحة في الحديث عن اليهود والنصارى، والنص صريح في أنهم “لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”، فوقع بينها وبين دليل المعاصرين تعارضا، فوجب الجمع بينهما.

– الوقفة الثانية: من المعلوم أن اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر، ولكنهم لا يؤمنون بباقي أركان الإيمان، ومنها ضرورة الإيمان بنبوة سيدنا محمد الخاتم ﷺ. ونظرا لتلازم أركان الإيمان، كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كعدم الإيمان، لذلك قال الله تعالى عنهم في آية الجزية: “الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”.

 – الوقفة الثالثة: صرحت الآية التي يستدل بها المعاصرون أن اليهود والنصارى يؤمنون بالله، ولو كانوا يؤمنون بالله حقا لآمنوا برسل الله، لأنهم هم من عرّفوا الناس بالله وبضرورة الإيمان به، فكيف يؤمنون بالله ولا يؤمنون برسله؟ لذلك كان إيمانهم هباء، فقال عنهم الله تعالى في الآية الأخرى: “الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”.

– الوقفة الرابعة: الإيمان بالله ليس لقلقة لسان، وليس كلاما يقال صبحة وعشيا، بل هو اعتقاد قلبي، له لوازمه وشرائطه، من التزمها كان إيمانه حقيقةً، ومن لم يلتزمها كان إيمانه هباء منثورا، وهذا نص الآية الكريمة: ﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكࣱ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡاخِرَةِ ‌یُؤۡمِنُونَ ‌بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام: 92]، فالذين يؤمنون بالآخرة حقيقةً يؤمنون بالكتاب المنزل على سيدنا محمد ﷺ الذي أنذر أم القرى ومن حولها، ومن يؤمن بالكتاب يؤمن ضرورةً بمن جاء به، ومن لا يؤمن بالقرآن وبصاحبه فليس مؤمنا. لذلك لم يكن الوصف بالإيمان في آية المعاصرين مفيدا لدعواهم.

 – الوقفة الخامسة: الوصف بالإيمان بالله وباليوم الآخر لا يعني أن الاقتصار عليهما ينجي صاحبه ويدرجه مع أهل الإيمان، بل إن ذكر هذين الركنين لا يعدو كونه من باب ذكر الجزء وإرادة الكل، فهو يذكر ركنين من أركان الإيمان ويقصد الإيمان بأركانه كلها، ولهذا نظائر في آيات أخر، منها:

1 ــ ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۚ﴾ [البقرة: 126]

2 ــ ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ وَلَا یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِیۤ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ یُؤۡمِنَّ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۚ ﴾ [البقرة: 228]

3 ــ ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن یَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡا۟ بَیۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ یُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ یُؤۡمِنُ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۗ﴾ [البقرة: 232]

4 ــ ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۚ ذَٰلِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا﴾ [النساء: 59]

5 ــ ﴿إِنَّمَا یَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ یَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰۤ أُو۟لَٰۤئِكَ أَن یَكُونُوا۟ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِینَ﴾ [التوبة: 18]

6 ــ ﴿أَجَعَلۡتُمۡ سِقَایَةَ ٱلۡحَاۤجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ وَجَٰهَدَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ لَا یَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِینَ﴾ [التوبة: 19]

7 ــ ﴿لَا یَسۡتَاذِنُكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ أَن یُجَٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ﴾ [التوبة: 44]

8 ــ ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن یُؤۡمِنُ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ وَیَتَّخِذُ مَا یُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَاۤ إِنَّهَا قُرۡبَةࣱ لَّهُمۡۚ سَیُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِی رَحۡمَتِهِۦۤإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [التوبة: 99]

9 ــ ﴿ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةࣲۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةࣱ فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِۖ﴾ [النور: 2]

10 ــ ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمࣰا یُومِنُونَ ‌بِٱللَّهِ ‌وَٱلۡیَوۡمِ ‌ٱلۡاخِرِ یُوَاۤدُّونَ مَنۡ حَاۤدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَاۤءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِیرَتَهُمۡۚ أُو۟لَٰۤئِكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِیمَٰنَ وَأَیَّدَهُم بِرُوحࣲ مِّنۡهُۖ وَیُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِینَ فِیهَاۚ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ أُو۟لَٰۤئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَاۤ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]

هذه عشر آيات بينات، كلها تقتصر على ذكر ركني الإيمان بالله واليوم الآخر، ولم يقل أحد بأن ذكرهما كان على سبيل الحصر، بحيث لا يتوقف إيمان المؤمن إلا عليهما دون سواهما من باقي الأركان، وعلى وزان هذه الآيات وردت الآية التي يُستدل بها على إيمان اليهود والنصارى سواء بسواء.

من خلال ما سبق، يتبين أن معنى الآية كالآتي، ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟﴾ ظاهرا لا باطنا، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأضمروا الكفر، ﴿وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ﴾ فإنهم جميعا على غير الإيمان الحق، ولا أمان لهم في الآخرة إلا ﴿مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡاخِرِ﴾ منهم، وهذان الركنان لا يدلان على الحصر، بل هما للدلالة على الإيمان بكل الأركان كما جلينا ذلك من قبل، ﴿وَعَمِلَ صَٰلِحࣰا﴾ لأن الإيمان وحده دون عمل صالح لا يأمن صاحبه من الخوف غدا يوم القيامة، ولذلك اقترن الإيمان بالعمل الصالح في حوالي خمسين آية أو أكثر، أما من آمن بكل الأركان وعمل صالحا ﴿فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾.

يؤيد ما ذهبنا إليه، أن الله تعالى جعل الأمن وعدم الخوف يوم القيامة نتيجة للعمل الصالح المقترن بالإيمان التام، وليس بالإيمان بركنين فقط، ومن ذلك:

1 ــ ﴿وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ إِلَّا مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَۖ فَمَنۡ ءَامَنَ وَأَصۡلَحَ ‌فَلَا ‌خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [الأنعام: 48]،

2 ــ ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ ‌وَلَا ‌هُمۡ ‌یَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة: 277]

3 ـ ﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَلَهُۥۤ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ ‌وَلَا ‌هُمۡ ‌یَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة: 112]، والإيمان هو إسلامٌ لله واستسلام لله، وهذه الآية نص في موضوعنا، لأنها رد على اليهود والنصارى الذين زعموا أنه لن يدخل الجنة أحدا غيرهم.
وأحيانا يذكر الله تعالى ركنا واحدا، وهو الإيمان بالله سبحانه، ولا يذكر باقي الأركان، فيقول عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُوا۟ ‌فَلَا ‌خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13]، ولعلنا نجد مستقبلا من يقول بإيمان الربوبيين، اعتمادا على هذه الآية التي لا تذكر الإيمان باليوم الآخر كما ذكرتها الآية الأخرى.

ويعضد ما ذهبنا إليه آيةً أخرى تجمع الأصناف المذكورين وغيرهم في سياق واحد مع التركيز على واو العطف الذي يفيد المغايرة، وهي قوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ ‌هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبِینَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ [الحج: 17]، ففي هذه الآية ثلاثة أصناف من الناس:

  • أولا: المؤمنون، وهم “الذين آمنوا”؛
  • ثانيا: الكفار غير المشركين، وهم “الذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس”.
  • ثالثا: المشركون، وهم “الذين أشركوا”.

وقد افتتح الله كل صنف باسم الموصول “الذين”، لتمييزهم عن غيرهم الذين يباينونهم في الجوهر العقدي، وفي الصنف الثاني أدمج الله تعالى اليهود والنصارى والمجوس والصابئة في سياق واحد للتقارب بينهم، ولم يدرجهم مع الصنف الأول لعدم إيمانهم بالرسول ﷺ، ولم يدرجهم مع المشركين لأنهم أهل كتاب، ولم يعبدوا التماثيل والأحجار، ولو كان اليهود والنصارى من المؤمنين لضمهم الله تعالى إلى الصنف الأول، ولما ميزهم عنهم.

مشهد من يوم القيامة:

ننتقل مع القرآن، لنرصد أحوال بعض الناس غدا يوم القيامة، حيث يتمنى الكافر كرة أخرى في الدنيا ليكون من المحسنين، فيأتيه الرد على الفور: ﴿بلَىٰ قَدۡ جَاۤءَتۡكَ ءَایَٰتِی﴾ ومنها الرسول ﷺ، فهو من آيات ربه الكبرى، وكذلك القرآن الكريم، ﴿فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِینَ﴾ وهذا تصريح بأن من يكذب بآيات الله ولا يؤمن بها يعد كافرا لا حظ له في الإيمان كما يدعي بعض المعاصرين، ﴿وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ﴾ وزعموا له المزاعم، مثل أبوته لعزير أو المسيح، ومثل قولهم بأن يده مغلولة، ومنها أنه يحبهم دون سواهم، ﴿وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌۚ﴾ بخلاف وجوه المؤمنين الناضرة، ﴿أَلَیۡسَ فِی جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡمُتَكَبِّرِینَ﴾ [الزمر: 58-60]، فجهنم مصيرهم، ولا مصير لهم غيرها.

الإيمان بالرسول ﷺ:

بيّنا في السابق أن الإيمان بسيدنا ومولانا رسول الله ﷺ شرط في حقيقة الإيمان ومسماه، وما كنا نظن أنه سيأتينا زمان نناقش فيه البدهيات ونستدل لها، ولكنه عصر غربة الدين.

ومن النصوص القرآنية المصرحة بضرورة الإيمان بسيدنا رسول الله ﷺ مفردا، وليس الإيمان بالرسل جمعا، قوله تعالى: ﴿‌وَمَن ‌لَّمۡ ‌یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ فَإِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِینَ سَعِیرࣰا﴾ [الفتح: 13]، وهذه الآية في سورة الفتح، وهي مما نزل في السنوات الأخيرة من البعثة، وهي صريحة في كفر من لم يؤمن برسالة سيدنا محمد ﷺ، وليس فيها ما يدل تصريحا أو تلميحا على إيمان من لم يؤمن به، بل هو كافر أولا، وله السعير ثانيا.

خاتمة:

هذه سياحة قرآنية، لم يخطر ببالنا ذات يوم أننا سنقوم بها، جمعت فيها بعض الآيات التي تفيد بمجموعها أو آحادها، أن أهل الكتاب لا علاقة لهم بالإيمان، وأنهم كفار غير مؤمنين، وأن الفوز في الآخرة مترتب على الإيمان أولا، والعمل الصالح ثانيا، أما العمل الصالح بدون إيمان فلا يفيد صاحبه، ﴿‌وَقَدِمۡنَاۤ إِلَىٰ مَا عَمِلُوا۟ مِنۡ عَمَلࣲ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَاۤءࣰ مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: 23].

ولم أورد الأدلة الحديثية على ذلك، لأن كثيرا من مميعي العقيدة الإسلامية لا يستدلون بالحديث، وأحيانا يتمحلون في رده، ويدعون التمسك بالقرآن، فاحتكمنا معهم إلى القرآن وحده، ولم نحد عن آيه، إلزاما لهم وليس وفاقا معهم.

ونرجو الله تعالى أن يتقبل هذا الجهد، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن يكتبه لنا في سياق الذب عن العقيدة الإسلامية. أمين أمين. والحمد لله رب العالمين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.