الاستحسان دلالته واختلاف الأصوليين حوله
الاستحسان دلالته واختلاف الأصوليين حوله/سهام مهدي
الاستحسان دلالته واختلاف الأصوليين حوله
بقلم: سهام مهدي
إن استنباط الأحكام الشرعية ولا سيما في النوازل والوقائع المستجدة لا يقتصر فقط على القرآن والسنة، وإنما يتم باعتماد أدلة شرعية أخرى للاستنباط الفقهي، وهذه الأدلة نوعان منها ما هو متفق عليه بين جمهور العلماء كالإجماع والقياس، ومنها ما هو مختلف فيه كالاستصحاب والمصلحة المرسلة وشرع من قبلنا والعرف ومذهب الصحابي وسد الذرائع والاستحسان الذي هو موضوع بحثنا، فما هو الاستحسان؟ وكيف اختلف الأصوليون حوله؟
أولا :مفهوم الاستحسان
الاستحسان لغة: عد الشيء حسنا، يقال استحسنت كذا بمعنى اعتقدته حسنا، واستقبحته على ضده.
واصطلاحا: اختلفت ألفاظ الأصوليين في تعريف الاستحسان لكن المعاني متقاربة، فعرفه الحنفية بعدة تعريفات، فقد عرفه الدبوسي[1] بقوله:” اسم لضرب دليل يعارض القياس الجلي”، وعرفه الإمام الْكَرْخِيُّ[2] بقوله: “الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْعُدُولُ فِي مَسْأَلَةٍ عَنْ مِثْلِ مَا حُكِمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى”، وعرفه بعضهم:” إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ إِلَى النَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْعَادَةِ[3].”
أما المالكية فقد عرفه سليمان الباجي بقوله: “الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو العدول إلى أقوى الدليلين”[4].وشرح ابن فرحون هذا المعنى بقوله: وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْحَادِثَةُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ أَصْلَيْنِ: وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ أَقْوَى بِهَا شَبَهًا وَأَقْرَبُ، وَالْأَصْلُ الْآخَرُ أَبْعَدُ إلَّا مَعَ الْقِيَاسِ الْبَعِيدِ الظَّاهِرِيِّ، أَوْ عُرْفٍ جَارٍ أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَوْ خَوْفِ مَفْسَدَةٍ، أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الضَّرَرِ وَالْعُذْرِ، فَيُعْدَلُ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الْقَرِيبِ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْبَعِيدِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ، وَأَتَمُّ طَرِيقَةٍ لِلْقَائِسِينَ[5]. وما يزيد هذا وضوحا ما ذكر في منح الجليل: الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى يَكُونَ أَغْلَبَ مِنْ الْقِيَاسِ هُوَ أَنْ يَكُونَ طَرْدُ الْقِيَاسِ يُؤَدِّي إلَى غُلُوٍّ فِي الْحُكْمِ وَمُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَعْنًى يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ وَالْحُكْمُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ، وَمِنْ الِاسْتِحْسَانِ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمَذْهَبِ[6].
والمستفاد من هذه التعريفات أن الاستحسان هو العدول عن دليل أو قاعدة إلى ما هو أقوى منها لمرجح خاص.
ثانيا: اختلاف الأصوليين حوله
اختلف الأصوليون في الاستحسان بين مؤيد ورافض، فالحنفية أكبر القائلين بالاستحسان، وكذلك المالكية والحنابلة يعتمدون الاستحسان في اجتهادهم، واستدلوا بأدلة نقلية وعقلية، قال ابن العربي: “الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ فالْعُمُومَ إذَا اسْتَمَرَّ وَالْقِيَاسُ إذَا اطَّرَدَ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ”[7] وقال القاضي يعقوب١: “القول بالاستحسان مذهب أحمد -رحمه الله- وهو: أن تترك حكما إلى حكم هو أولى منه.وهذا مما لا ينكر، وإن اختلف في تسميته، فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى. الثاني: أنه يستحسنه المجتهد بعقله.وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: هو حجة، تمسكًا بقوله تعالى:”الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ” (الزمر:18).، وقوله:” اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ”(الزمر:55) .وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم- “ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن”[8].
أما الرافضون فمنهم من ينكر الاستحسان تبعا لإنكارهم القياس، كما هو موقف ابن حزم الظاهري:” فأما القائلون به فإننا نجدهم يقولون في كثير من مسائلهم إن القياس في هذه المسألة كذا ولكنا نستحسن فنقول غير ذلك قال أبو محمد واحتج القائلون بالاستحسان بقول الله عز وجل :“الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب” قال أبو محمد وهذا الاحتجاج عليهم لا لهم لأن الله تعالى لم يقل فيتبعون ما استحسنوا وإنما قال عز وجل :“إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزروا وازرة وزرة أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور” وأحسن الأقوال ما وافق القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو الإجماع المتيقن من كل مسلم ومن قال غير هذا فليس مسلما وهو الذي بينه عز وجل إذ يقول :“يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا” ولم يقل تعالى فردوه إلى ما تستحسنون”[9].
أما الإمام الشافعي فقد أنكر الاستحسان رغم إثباته للقياس، فقد عبر عن رفضه التام للاستحسان في كتابيه الأم والرسالة حتى خصص في كتابه الأم بابا باسم “إبطال الاستحسان”، كما عرف بكلماته المشهورة الاستحسان تلذذ[10]، ومن استحسن فقد شرع[11].
وهكذا اختلف الأصوليون حول الاستحسان بين مؤيد ورافض، ويبقى الاستحسان دليل يعمل به ويلجأ إليه عند الحاجة والضرورة، ففيه تخفيف ورحمة، ويختار الأصلح للأمة، والله أدرى وأعلم.
[1] أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي (ت ٤٣٠ هـ)، تقويم الأدلة في أصول الفقه،المحقق: خليل محيي الدين الميس، مفتي زحلة والبقاع ومدير أزهر لبنان،الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان،الطبعة: الأولى، ١٤٢١ هـ – ٢٠٠١ م، ص:404.
[2]المؤلف: علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، علق عليه: عبد الرزاق عفيفي، الناشر: المكتب الإسلامي، (دمشق – بيرو)،الطبعة: الثانية، ١٤٠٢ هـ،(4/158).
[3] المرجع نفسه،(4/157).
[4] ا أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الكتب العلمية، الطبعة الثامنة:2011م،(4/149).
[5] المؤلف: إبراهيم بن علي بن محمد، ابن فرحون، برهان الدين اليعمري (ت ٧٩٩هـ)، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام
الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية،الطبعة: الأولى، ١٤٠٦هـ – ١٩٨٦م،(2/60).
[6] محمد عليش، منح الجليل شرح مختصر خليل، الناشر: دار الفكر – بيروت، الطبعة: الأولى،: ١٤٠٤ هـ – ١٩٨٤ م، (6/472).
[7] القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (ت ٥٤٣هـ)،أحكام القرآن،راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا،الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان،الطبعة: الثالثة، ١٤٢٤ هـ – ٢٠٠٣ م،(2/279).
[8] موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الجماعيلي (٥٤١ – ٦٢٠ هـ)، روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، قدم له ووضح غوامضه وخرج شواهده: الدكتور شعبان محمد إسماعيل [ت ١٤٤٣ هـ]، الناشر: مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: الطبعة الثانية ١٤٢٣ هـ-٢٠٠٢ م، (1/474).
[9] أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت ٤٥٦ هـ)، الإحكام في أصول الأحكام، قوبلت على الطبعة التي حققها: الشيخ أحمد محمد شاكر،
قدم له: الأستاذ الدكتور إحسان عباس،الناشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت، (6/17).
[10] محمد بن إدريس الشافعي (١٥٠ هـ – ٢٠٤ هـ)، الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر،(عن أصل بخط الربيع بن سليمان كتبه في حياة الشافعي)
الطبعة: الأولى، ١٣٥٧ هـ – ١٩٣٨ م، الناشر: مصطفى البابي الحلبي وأولاد – مصر، ص:507..
[11] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت ٥٠٥هـ)، المستصفى، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، الناشر: دار الكتب العلمية،
الطبعة: الأولى، ١٤١٣هـ – ١٩٩٣م، ص:179.