أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار “يتبع”(15) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم
الدكتور رمضان خميس
أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار “يتبع”(15) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم
بقلم: الدكتور رمضان خميس
سنة الله تعالى في إهلاك الأمم سنة واضحة بينة في القرآن الكريم، رصدها في كثير من الآيات، وتتبعها صاحب المنار في تفسيره، من خلال الآيات التي عرض لتناولها، والحديث عنها، والسنة لا تكون سنة بمعناها القرآني إلا إذا كانت لها أسباب ومقدمات.
وقبل الحديث عن الأسباب نعرض لتعريف السبب فأقول: السبب هو الحبل، أو الطريق، أو ما يتوصل به إلى غيره، قال صاحب الأساس: (انقطع السبب أي الحبل، ومالي إليه سبب: طريق)).
والسبب في اللغة: اسم لما يتوصل به إلى المقصود، وفي الشريعة: عبارة عما يكون طريقاً للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه: الحبل).
وقد سمى الله – تعال- الحبل سببا في قوله تعالى-: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيط).
ومن أسباب هلاك الأمم التي ذكرها القرآن، ورصدها صاحب المنار ما يلي:
- الظلم:
من أسماء الله تعالى العدل، سمی به نفسه، ودعا عباده إلى التحلي به، ونهاهم عن كل ما يحول بين الإنسان والعدالة، فنهاهم عن الظلم وأسبابه، وأمرهم بالعدل ومتطلباته، ونهي عن الظلم، وجعله سببا من أسباب هلاك الأمم، وزوال ملكها، وإن كانت مسلمة فقال تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
عالج السيد رشيد رضا هذه القضية في تفسيره وأبان خطر الظلم وأنه سبب من أسباب الهلاك في غير ما موضع من تفسيره إذ يقول عند تناوله قوله – تعالى-: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون).
بعد أن عرض لقول الطبري وابن كثير في المراد من الظلم هنا: (ورد في هذا الموضوع عدة آيات، منها ما هو نص في إهلاك القرى بظلمها، ومنها ما هو بيان لسنته تعالى في ذلك كهذه الآية، ومن الأول قوله تعالى في سورة هود: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد))، ومن الثاني قوله فيها: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)… ورجح أن المراد من الظلم هذا الظلم المعروف وهو وضع الشيء في غير موضعه بقوله: قد بينا في تفسير تلك الآية أن الظلم إنما صح تفسيره فيها بالشرك الذي هو أعظم الظلم –وهو نكرة في سياق النفي- لأنه وارد في الظلم الذي يلبس به الإيمان فصح فيه العموم المقيد الذي ورد فيه؛ لأن قليل الشرك يفسد الإيمان ككثيره، وأما الظلم في الآية التي نفسرها الآن وفي آية هود المماثلة لها فقد ورد نكرة في سياق النفي في مقام بيان سبب إهلاك القرى، فيجب أن يكون العموم فيه مطلقا لما ثبت في الآيات الأخرى المؤيدة بوقائع التاريخ من هلاك الأمم بالظلم في الأعمال والأحكام، وبقائها زمنا طويلا مع الشرك إذا كانت مصلحة فيهما كما هو ظاهر آية هود….
ومنه عذاب الله تعالى هلاك الأمم بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق ويقطع روابط المجتمع، ويجعل بأس الأمة بينها شديدا فيكون ذلك سببا اجتماعيا لسلب استقلالها وذهاب ملكها حسب سنن الاجتماع وقد أنذرنا الله هذا في كتابه وعلى لسان رسوله))
وعلى ذلك فالظلم سبب من أسباب هلاك الأمم كما بين ذلك القرآن وفسره صاحب المنار ولا ينكر صاحب المنار أن المراد من الظلم في بعض الآيات الشرك لدلالة السياق على ذلك وفي بعضها يدل على الظلم بمعناه العرفي.
ويؤكد على أن الظلم المهلك للأمم هو الذي يصر أصحابه عليه وليس أي ظلم وبين ذلك في تناوله لآية الأعراف (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حياتنهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما لهوا عنه قلنا لهم كولوا قردة خاسئين) إذ يقول: (أخذهم الله بعذاب بئيس بسبب فسقهم المستمر لا بظلمهم في الاعتداء في السبت فقط وذلك أن وصفهم بأنهم ظلموا تعليل لأخذهم بعذاب بئيس، بناء على قاعدة كون بناء الحكم أو الجزاء على المشتق يدل على أن المشتق منه علة له، ولكن الله تعالى لا يؤاخذ كل ظالم في الدنيا بكل ظلم يقع منه ولو كان قليلا في الصفة أو العدد –وإن شئت قلت في الكيف أو الكم بدليل قوله: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)، وقوله: (ويعفو عن كثير)، وإنما يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بالظلم والذنوب التي يظهر أثرها بالإصرار والاستمرار عليها).
وفي تناوله لأصول السنن التي ضمتها سورة الأعراف يقسم السنن إلى سنن في الخلق والتكوين وسنن في الاجتماع والعمران البشري، ويذكر أن أول أصل من أصول السورة في سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري إهلاك الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها، کما ” من قوله – تعالى -: «وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)، ومصداقه في خلق آدم الذي هو عنوان البشرية، وجعله – تعالى- المعصية بالأكل من الشجرة ظلما للنفس في قوله: (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). واعتراف آدم وحواء في دعاء توبتهما بذلك في قولهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا)، وبأن شأن المعصية في الأفراد أن تغفر بالتوبة فيعفى عن عقابها، وهو خسران النفس كما في قولهما: (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين))، وأما خسارة الأمم فهي إضاعة استقلالها وسلطان أمة أخرى عليها تستذلها.
وجملة ذلك أن العقوبة أثر طبيعي لازم للعمل، وأن ذنوب الأمم لابد من العقاب عليها في الدنيا قبل الأخرة).
ويقسم رحمه الله إهلاك الله للأمم بظلمها إلى نوعين فيقول: أحدهما هو مقتضى سنته في نظام الاجتماع البشري وهي أن الظلم سبب لفساد العمران وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية منها على الضعيفة استيلاء مؤقتا، إن كان إفساد الظلم لها عارضا لم يجهز على استعدادها للحياة واستعادتها للاستقلال كما في قوله تعالى-: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) أو دائما إن كانت غير صالحة للحياة حتى تنقرض أو تدغم في الغالبة، كما في قوله: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين)، وهذا النوع أثر طبيعي للظلم بحسب سنن الله في البشر، وهو قسمان ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف في الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق وظلم الحكام الذي يفسد الأمة في جملتها، وهذه السنة دائمة في الأمم، ولها حدود ومواقيت تختلف باختلاف أحوالها وأحوال أعدائها، ثانيهما عذاب الاستئصال للأقوام التي بعث الله تعالى فيها رسلها لهدايتها بالإيمان والعمل الصالح، وأعظم أركانه العدل فعاندوا الرسل، فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيء الآيات).
*من كتاب سنن الله في إهلاك الأمم دراسة في تفسير المنار*