أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار “يتبع” (18) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم
الدكتور رمضان خميس
أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار “يتبع” (18) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم
بقلم: الدكتور رمضان خميس
هلاك الأمم بالأجل
ورد في القرآن الكريم ما يفيد هلاك الأمم بالأجل في آيات كريمة كثيرة وهذا سبب من أسباب الهلاك ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)، وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)، وقوله( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، وتناول صاحب المنار هذا السبب من أسباب الهلاك للأمم في أكثر من موطن منها حديثه عن أصول سورة الأعراف في سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري فيقول في الأصل الثاني:(بيان أن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عن أسبابها وهو نص الآية (34) وكونها إذا كانت جاهلة بهذه السنن تؤخذ بغتة وعلى غفلة ليلا أو نهارا، كما يؤخذ من الآيات 94-100 وهذه الآيات وردت في عقاب الأمم التي عاندت الرسل وكان عقابها وضعيا لا اجتماعيا.)، وعند تناوله لقوله تعالى: (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) يقول: (قل لهم يا محمد: لكل أمة أمد مضروب لحياتها، مقدر فيما وضع الخالق – سبحانه- من السنن لوجودها، وهو على نوعين: الأول أجل من يبعث الله فيهم رسلا لهدايتهم فيردون دعوتهم كبرا وعنادا في الجحود….والنوع الثاني: الأجل المقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة بالاستقلال، التي تنتهي بالشقاء والمهانة أو الاستعباد والاستذلال، إن لم تنته بالفناء والزوال، وهذا النوع منوط بسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والعمران، وأسبابه محصورة في مخالفة هدي الآيات التي قبل هذه الآية، بالإسراف في الزينة والتمتع بالطيبات، وباقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، وبخرافات الشرك والوثنية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه لها من أحكام…فما من أمة عزيزة سعيدة ارتكبت هذه الضلالات والمفاسد المبيدة إلا سلبها الله سعادتها وعزها وسلط عليها من استذلها وسلب ملكها).
هلاك الأمم بكفران النعم
كفران النعم أو كفرها: هو سترها بترك أداء شكرها، وأكثر ما يستعمل لفظ الكفران في جحود النعم، أما لفظ الكفر فيكثر استعماله في الكفر المضاد للإيمان.
وقد عني القرآن الكريم بذكر هذا السبب من أسباب هلاك الأمم في غير ما موضع، ومن ذلك قوله تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)، وقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)، وقوله تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)، قوله جل شأنه-: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).
وقد عني صاحب المنار برصد هذا السبب من أسباب هلاك الأمم في تفسيره، وندب الأمة للإفادة منها، والوقوف على سنة الله فيها، فقال وهو يتناول سورة الأنعام: (والذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان: أحدهما معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به، وثانيهما كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة فهذا كله من الكفر بنعم الله واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام، والآيات الناطقة بتلك الذنوب مجتمعة ومتفرقة كثيرة….والعذاب الذي يعذب الله به الأمم ويهلك القرون، ويديل الدول قسمان أيضا: الجوائح والاستئصال، وفقد الاستقلال، وقد بينا هذا وذاك في مواضع من هذا التفسير، وفي هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف عصبية النبي ﷺ، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) .
من كتاب سنن الله في إهلاك الأمم دراسة في تفسير المنار