منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار “يتبع” (17) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم

الدكتور رمضان خميس

0

أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار “يتبع” (17) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم

بقلم: الدكتور رمضان خميس

هلاك الأمم بتكذيب الرسل

أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين وأيدهم بالحجج الباهرة والمعجزات الساطعة (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، ومن رحمته بعباده أن جعل كل رسول يرسله بلسان قومه ليبين لهم، (َومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ووردت الآيات الباهرات التي تؤكد أن هؤلاء الرسل بلغوا أقوامهم على أكمل وجه وأبينه وهو الذي سماه الله تعالى (البلاغ المبين) ، ولم تكن الأمم كلها على طريقة واحدة في قبول دعوة الرسل فمنهم من آمن واستجاب ومنهم من صد عن السبيل ووقف حائلا بين الناس  ورسالات الله تعالى، وكذبوا المرسلين بشتى صور التكذيب من استهزاء وسخرية إلى إيذاء وحرب، إلى رمي بالجنون وادعاء أن هذا أساطير الأولين، وغنى القرآن الكريم بتسجيل هذا التكذيب وتسجيل عقوبته التي حلت بأصحابه ومن ذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ).

وقد حفلت سورة المؤمنون برصد هذا السنة من سنن الله تعالى في إهلاك الأمم بتكذيبها للرسل كما عنيت السور المكية خاصة بالحديث عن هذه السنة وعقاب الأمم المكذبة، ومن ذلك قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)، وقوله تعالى( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، وتعددت الآيات الكريمة التي تثبت هذه السنة وهي إهلاك الأمم المكذبة لرسلهم كما تعددت الآيات التي تثبت كثرة الطرق التي كذب بها الأقوام رسلهم من التكذيب الصريح إلى الاتهام بالسفاهة والضلال والسحر والجنون وإظهار الشك فيما جاء به المرسلون.

تناول صاحب المنار هذا السبب من أسباب هلاك الأمم في غير مرة من تفسيره، فيقول وهو يتناول قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقد ساق آيات مناظرة تدل على هلاك الأمم بتكذيبهم للرسل، (والمتبادر من الشواهد الأولى أنها في عذاب الدنيا سواء بالاستئصال أو فقد الاستقلال وهو المشار إليه بالهلاك، أو بما هو دون ذلك وهو المشار إليه بالمصيبة وأما الشاهد الأخير فيظهر أنه أعم…. والمتبادر من آية سورة الإسراء أنه ليس من شأن الله تعالى ولا من سنته أن يعذب الأمم التعذيب السماوي العام الذي عبر عنه بقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) إلا إذا أرسل إليهم رسولا فكذبوه، وسنته في هذا النوع مبينة في مواضع من الكتاب العزيز، فهو لا يأخذ به كل قوم كذبوا رسولهم، بل من أنذرهم العذاب فتماروا بالنذر، وتمادوا في عناد الرسل..

ويقول رحمه الله وهو يتناول صورة من صور التكذيب للرسل وهي الاستهزاء بهم عند تفسيره لقوله تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ): بعد أن بين الله تعالى لخاتم رسله سنته في شبهات الكفار المعاندين على الرسالة، وإصرارهم على الجحود والتكذيب بعد إعطائهم الآيات التي كانوا يقترحونها، وعقابه تعالى إياهم على ذلك بين له شأنا آخر من شؤون أولئك الكفار مع رسلهم وسنته تعالى فيهم ….وفي الآية تعليم للنبيﷺ، سنن الله في الأمم مع رسلهم وتسلية له عن إيذاء قومه، وبشارة بحسن العاقبة وما سيكون له من إدالة الدولة، وقد كان جزاء المستهزئين بمن قبله من الرسل عذاب الخزي بالاستئصال، ولكن الله كفاه المستهزئين به فأهلكهم، ولم يجعلهم سببا لهلاك قومهم، وامتن عليه بذلك في سورة الحجر إذ قال: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)…

ولما كان أمر المستهزئين بالرسل يؤول إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو مكة الذين يجهلون التاريخ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم أمر الله تعالى رسوله بأن يدلهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، أي قل أيها الرسول للمكذبين بك من قومك الذين قالوا :(لولا أنزل عليه ملك): سيروا في الأرض كشأنكم وعادتكم، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم ما لم نمكن لكم، ثم انظروا في أثناء رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم، وما تسمعون من أخبارهم، وإنما قال: (عاقبة المكذبين)، ولم يقل: عاقبة المستهزئين أو الساخرين، والكلام الأخير في هؤلاء لا في جميع المكذبين، وإن كان السبب المباشر للإهلاك اقتراح المستهزئين الآيات على الرسل، فلما أعطوها كذب بها المستهزئون المقترحون غيرهم من الكافرين الذين كانوا مشغولين بأنفسهم ومعايشهم عن مشاركة كبراء مترفيهم بالاستهزاء والسخرية، وإذا كان المكذبون قد استحقوا الهلاك وإن لم يستهزئوا ولم يسخروا فكيف يكون حال المستهزئين الساخرين؟ لا ريب أنهم أحق بالهلاك وأجدر؛ ولذلك أهلك الله المستهزئين من قوم نبي الرحمة ولم يجبهم إلى ما اقترحوه لئلا يعم شؤمهم سائر المكذبين معهم، ومنهم المستعدون للإيمان الذين اهتدوا من بعدهم).

ويقول وهو يتحدث عن قوله تعالى: (لكل أمة أجل): كأن يبعث الله فيهم رسلا لهدايتهم فيردون دعوتهم كبرا وعنادا في الجحود ويقترحون عليهم الآيات فيعطونها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها، فيكذبون فيهلكون، وبهذا هلك أقوام نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم. وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم، وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين المخاطب بقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) لكن انتهاءه عند الله لا يمنع جعله إنذارا لقومه خاصة بهلاكهم إن أعطوا إرضاء لعنادهم، ليعلم أهل البصيرة بعد ذلك أن منعهم إياه إنما كان رحمة بهم وبغيرهم، وقد مضت سنة الله في الأمم أن الجاحدين الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون به؛ ولأجل هذا لم يعط الله تعالى لرسوله شيئا مما كان يعطونهم منها…وهذا الأجل لم يكن يعلمه أحد إلا بعد أن بينه الله تعالى على ألسنة الرسل.

من كتاب سنن الله في إهلاك الأمم دراسة في تفسير المنار

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.