منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار”يتبع”(16) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم

الدكتور رمضان خميس

0

أسباب هلاك الأمم في نظر صاحب المنار”يتبع”(16) سلسلة سنن الله في إهلاك الأمم

بقلم: الدكتور رمضان خميس

الغفلة عن أسباب الهلاك

ومن أسباب هلاك الأمم وسنة الله فيها الغفلة عن أسباب هلاك الأمم الماضية فإن الأمة التي تعتبر بمن سلف وتتقي الوقوع في مثل ما وقع فيه من غبر تقي نفسها من ورود نفس الورد والسير على نفس الطريق المؤدي إلى الهلاك والبوار، وقد حفل القرآن الكريم بلفت أنظار الناس إلى السير والنظر في سنة الله في الماضين والتعرف على أسباب أخذ الله لهم حتى يتقي اللاحق ما حدث للسابق وهذا ما كثرت دعوة القرآن إليه سواء عن طريق الأمر المباشر (سيروا)(انظروا) (أولم يهد لهم) (أولم ينظروا)، (أولم يتفكروا)… إلى غير هذا من الأوامر الكريمة واللفتات البديعة في القرآن الكريم..

يتناول صاحب المنار هذا السبب من أسباب هلاك الأمم عند تناوله لقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) فيقول: (معنى الآية: نقسم أننا قد أرسلنا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم، فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء ليكون ذلك معدا لهم للإيمان لما يترتب عليه –بحسب طبائع البشر- من التضرع والجؤار بالدعاء لربهم، إذ مضت سنتنا بجعل الشدائد مربية للناس بما ترجع المغرورين عن غرورهم، وتكلف الفجار عن فجورهم فما أجدرهم بإرجاع أهل الأوهام عن دعاء أمثالهم من البشر وما دونهم من الأصنام ولكن من الناس من يصل إلى غاية من الشرك والفسق لا يزيلها بأس ولا يزلزلها بؤس، فلا تنفع معهم العبر ولا تؤثر فيهم الغير وكان أولئك الأقوام منهم، …فلما أعرضوا عما أنذرهم ووعظهم به الرسل، وتركوا الاهتداء به حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به –لإصرارهم على كفرهم، وجمودهم على تقليد من قبلهم بلوناهم بالحسنات بما فتحنا عليهم من أبواب كل شيء من أنواع سعة الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس والأموال، كما قال الله تعالى في قوم موسى(وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) فلم يتربوا بالنعم ولا شكروا المنعم، بل أفادتهم النعم فرحا وبطرا، كما أفادتهم الشدائد قسوة وأشرا (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) منها، وفسقوا عن أمر ربهم بطرا وغرورا بها(أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) أي: أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم أو حال كونهم مبغوتين إذ فجأهم على غرة من غير سبق أمارة ولا إمهال للاستعداد أو للهرب فإذا هم مبلسون أي: متحسرون يائسون من النجاة أو هالكون منقطعة حجتهم ….(والحمد لله رب العالمين) أي: والثناء الحسن في ذلك الذي جرى من نصر الله تعالى لرسله بإظهار حججهم ، وتصديق نذرهم، وإهلاك المشركين الظالمين وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم، ثابت ومستحق لله رب العالمين المدبر لأمورهم المقيم لأمر اجتماعهم، بحكمته البالغة وسننه العادلة، فهذه الجملة بيان للحق الواقع من كون الحمد والثناء على ذلك مستحق لله تعالى وحده، وإرشاد لعباده المؤمنين، يذكرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر المفسدين)

ويقول وهو ينبه المسلمين إلى ضرورة الإفادة من سنن الله في الغابرين (لقد أفاد غير المسلمين بما كتبه ابن خلدون في ذلك وبنوا عليه ووسعوه فكان من العلوم التي سادوا بها على المسلمين الذين لم (يستفيدوا) منه كما كان يجب؛ لأنه كتب في طور تدليهم وانحطاطهم، بل لم يستفيدوا من هداية القرآن العليا في إقامة أمر ملكهم وحضارتهم على ما أرشدهم إليه من القواعد وسنن الله تعالى فيمن قبلهم…ولا يزالون معرضين عن هذا الرشد والهداية على شدة حاجتهم إليها بسبب ما وصل تنازع البقاء بين الأمم في هذا العصر).

ويعلق على قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) فيقول: (فيه إيذان بأنه لا ينبغي للعاقل أن يأمن صفو الليالي ولا مواتاة الأيام، ولا يغتر بالرخاء فيعده آية على الاستحقاق له الذي هو مظنة الدوام، وقد يعذر بالغفلة قبل النذير، وأما بعده فلا عذر ولا عذير، وفيه تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزة عصبيتهم، وبما كانوا يزعمون أنها آية رضى الله عنهم (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) وليس أمرهم بأعجب من الأقوام التي عرفت هداية القرآن أو سنن الله في نوع الإنسان، ثم هي تغتر بما هي عليه وإن كان دليلا على الهلاك، ولا ترجع عن غيها حتى يأتيها العذاب.).

ويقول -رحمه الله- وهو يتناول تفسير سورة الفاتحة عند قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ): (إن ثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص، وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم، في كفرهم وإيمانهم وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع. فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم، وعزهم وذلهم، وغير ذلك مما يعرض للأمم كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم، فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض، واجتناب سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار.

ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه، ويقولون: إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له. وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين؟ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ).

وعندما يتناول قضية التمكين لبني إسرائيل من خلال قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين) يقول: (ترى شعوب المسلمين يجهلون هذه السنن الإلهية وما ضاع ملكهم وعزهم إلا بجهلها الذي كان سببا لعدم الاهتداء بها في العمل، وما كان سبب هذا الجهل إلا الإعراض عن القرآن، ودعوى الاستغناء عن هدايته بما كتبه لهم المتكلمون من كتب العقائد المبنية على القواعد الكلامية المبتدعة، وما كتبه الفقهاء من أحكام العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب وما يتعلق بها…

إن كتاب الإسلام هو المرشد الأول لسنن الاجتماع والعمران، ولكن المسلمين قصروا في طور حياتهم العلمية عن تفصيل ذلك بالتدوين لعدم شعورهم بالحاجة إليه، وكان حقهم في هذا العصر أن يكونوا أوسع الناس علما؛ لأن كتاب الله مؤيد للحاجة بل الضرورة التي تدعو إليه.

من كتاب سنن الله في إهلاك الأمم دراسة في تفسير المنار

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.