ارتبطت اشكالية المساواة داخل الأسرة بالركنين الرئيسيين من أركانها وهما: الزوج والزوجة، ولأن الأسرة شركة من نوع خاص رأس مالها الإنسان، وروح معاملاتها المكارمة، ولأن هذه المؤسسة تروم مقاصد سامية من إحصان وعفة وطمأنينة وحفظ للنوع البشري، فإن التمييز بين أركانها بدون وجه حق أمر تستهجنه الفطرة السوية وترفضه العقول السليمة لأمور منها:
- التعارض الحاصل بين روح النظام الذي تقوم عليه مؤسسة الأسرة من عدل وإنصاف ومحبة وتعاون وغيرها من المعاني الإنسانية السامية، وبين نظام التمييز في أبعاده الاحتقارية.
- المصادرة الفعلية للغايات النبيلة التي من أجلها قامت مؤسسة الأسرة من استقرار وحفظ للنوع وتحقيق لأمن المجتمع… وهي أمور متعذرة الوجود مع سيادة منطق الدونية والتفاوت والاحتقار بين أفراد الأسرة.
وزد على ذلك، هل يمكن أن تكون مؤسسة الأسرة الوحدة البشرية الأولى وأهم وحداتها على الإطلاق قد أريد لها أن تقوم على نظام التمييز والتفاوت بين أعضائها؟
وجواب ذلك من خلال أطروحتين كبيرتين:
الأولى أقرت بالتمييز الثابت بين الزوجين داخل مؤسسة الأسرة، ومن أسبابه المباشرة:
- الاختلاف في التكوين الفطري بين الرجل والمرأة.
- طبيعة الوظائف والأدوار كما هي موزعة بين الرجل والمرأة حيث اختص الرجل بالوظائف الشريفة التي ترفع درجته من نفقة وإشراف وتسيير، بينما كان حظ المرأة الوظائف الحقيرة من إنجاب وتربية أطفال وعمل البيت.
- طبيعة النص التشريعي المنظم للعلاقة بين الرجل والمرأة داخل الأسرة، إذ أن التمييز الحاصل بينهما مرجعه تلك القوانين والتشريعات المنظمة لتلك العلاقة.
- الموروث الثقافي لبعض المجتمعات حيث يتم توجيه العلاقة بين الرجل والمرأة بأعراف وتقاليد تؤسس لدونية المرأة واحتقارها.
والثانية اختارت عدم الاعتراف بالتمييز بين الجنسين لاعتبارات منها:
- أن مؤسسة الأسرة تقوم على فردين يتحدان في النوع ويختلفان في الجنس، فالتمييز القائم على أساس الجنس بعد الوحدة في النوع غير مبرر لا عقلا ولا نصا.
- أن مؤسسة الأسرة تحتاج في تسيير أمور حياتها إلى نظام تلتزمه وتنقاد له، ومعلوم أن هذه الأنظمة عامة، وكيفما كانت طبيعتها سماوية أو أرضية غاية المشروع منها تحقيق العدالة بين الأجناس البشرية، فكيف يشذ نظام الأسرة عن هذه القاعدة فيقر بالتمييز بين الأفراد؟
- أن الإختلاف والتنوع في طبيعة الوظائف داخل المؤسسات بصفة عامة لم يكن يوما أساسا للتمييز بين الأفراد، فكيف يستقيم ذلك داخل مؤسسة الأسرة، وهي التي انفردت بقيم مضافة تربط بين أفرادها – من محبة ومودة وعطف وحنان وغيرها- عز تحققها في غيرها من المؤسسات.
و مع رجاحة اختيار هذه الأطروحة الأخيرة لقوة أدلتها ومعقولية مبرراتها إلا كلمة الفصل في المسألة لا يتم إلا باستحضار المنطلقات والمسارات ثم المآلات الموجهة والحاكمة لكل تلك المسائل السابقة.
فبالنظر إلى لغة العرب والنصوص القرآنية الشريفة
نلاحظ التأكيد الحاصل ابتداء على التوازن بين عناصر الزوجين، ولبيانه ضوابط متعددة أهمها:
- أن الزوج هو عنصر مساو لزوجه يقول ابن منضور: ” ويقال: هما زوجان للإثنين وهما زوج،… هما سيان وهما سواء”[1]. إذن فالزوجان في لسان العرب هما عنصران متساويان في الوحدة المكونة منها. قال تعالى: ” وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى“[2]. ” فكل منهما كما يتضح زوج ذكرا كان أو أنثى”[3]، ” وزوج المرأة بعلها، وزوج الرجل امرأته “[4]
إذن حصل التساوي بين الكفات المكونة لهذه الوحدة، وهذا ما جعل بعض أهل اللغة كالأصمعي يفضل استعمال المصطلح بصفة المذكر– الزوج – للدلالة على شخص الذكر والأنثى رغم اختلافهما في الجنس وحجته في ذلك النصوص القرآنية التي أطلقت اللفظ بصيغة التذكير وتريد به المؤنث. وأهل الحجاز يضعونه للمذكر والمؤنث وضعا واحدا تقول المرأة: هذا زوجي، ويقول الرجل: هذا زوجي. كما يطلقون الفقهاء على شخص الأنثى الزوجة بدل الزوج للإيضاح وخوف لبس الذكر بالأنثى، إذ لو قيل تركة فيها زوج وابن لم يعلم أذكر هو أم أنثى لذا الفقهاء يؤنثون الزوجة استثناء طلبا للوضوح ودفعا للغموض، -كما ذكر الفيومي في المصباح المنير-[5]
- أن الزوج هو نظير زوجه، قال تعالى: “و احشروا الذين ظلموا وأزواجهم“[6]، معناه “ونظراءهم وضرباءهم”[7] أي “كل واحد نظير صاحبه”[8].
- أن الزوج هو قرين زوجه، قال تعالى: ” وإذا النفوس زوجت “[9]، أي قرنت بعضها ببعض. قال الزمخشري: ” وهذا زوجه أي قرينه…”[10]
و عن هذا العام للقرين تتفرع معان أخرى خادمة ومؤكدة لما يفترض حصوله بين الزوجين من المساوات والكفاءة وهي:
- أن القرين هو المصاحب: “فقارن الشيء مقارنة وقرانا اقترن به وصاحبه… والقرين المصاحب”[11]
- أن القرين هو الشيء نفسه، و” قرينته: نفسه هاهنا”[12]
- أن القرين “هو المطيق: واشتقاقه من قوله أنا لفلان مقرن أي مطيق”[13] وقال تعالى: ” وما كنا له مقرنين“[14] أي “مطيقين”[15]. وبه يتضح أن ما يندرج تحت معنى قرين الزوج من معان دقيقة تؤكد على المساواة الحاصلة بينهما.
- أن الزوج “هو فرد وهو نصف زوجه”[16]، قال الله تعالى: ” وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى“[17]، قال الأزهري: ” وأنكر النحويون أن يكون الزوج اثنين والزوج عندهم فرد وهو الصواب[18]. وقال الأنباري: ” والعامة تخطئ فتظن أن الزوج اثنان وليس ذلك من مذهب العرب”[19]. فالزوج فرد والزوجان ركنا الأسرة جمع.
- أن الزوج هو نفس صنف زوجه ونوعه، فهو ” الصنف والنوع من كل شيء” [20] قال تعالى: ” أو يزوجهم ذكرانا وإناثا“[21] فالزوج الصنف والنوع من كل شيء، قال ابن منظور: ” ويوقعون الزوجين على الجنسين المختلفين”[22]
و هو ما يؤكد أن الاتفاق والاختلاف بين الزوجين من الطبائع الجبلية التي فطرت عليها الزوجية لكن هذا المعنى لا تأثير له في معاني الانسجام والتوافق كما تقره ضوابط الزوجية السابقة.
و عليه فإن الأبعاد الدلالية للوحدة المكونة من الزوجين ترفض التمييز والانتقاص من أحد أبعاضها لاعتبارات ماهياتية، وفيه إحالة على معاني التوازن والتآلف بين هذه الأبعاض مع التنبيه على الاختلاف الوارد والمحتمل بينهما في بعض الخصائص مما يؤدي إلى استنتاجات مهمة منها:
- أن معنى الزوجين لا يعني التطابق التام على طريق الإلزام والحتم.
- أن الاختلاف بين عناصر هذه الوحدة أمر وارد ومحتمل.
- أن أفراد الزوجين قد يتفرد كل واحد منهما بخصوصية تميزه عن صاحبه.
- أن الاختلاف في الخصوصية لا يقتضي ضرورة التنافر والشنآن والدونية وعدم التكافؤ.
- أن منطق الاختلاف بين أعضاء الزوجين لا يؤسس لقاعدة التفاوت.
- وبناء عليه فإن ما توحي به معاني الزوجية هو أكثر غنى وثراء مما تدل عليه معنى المساواة، وما معنى المساواة إلا واحدا من تلك المعاني المتنوعة، زد على ذلك أن معنى المساواة المفترض حصوله بين الزوجين، مشروط فيه مراعاة ضوابط معاني الزوجية السابقة حتى تبقى المقدمات وفية ومنسجمة مع النتائج.
ولذلك فإن من معاني المساواة ما قد يقبله معنى الزوجية ويندرج تحته، ومنه ما قد يرفضه ولا يدخل ضمن مقوماته كالمماثلة والمعادلة والتشابه، وبيانه بتحقيق معنى المساواة في علاقته بمعنى الزوجية.
الزوجية والمساواة: طبيعة العلاقة
المساواة في اللغة أصله من سوا وسوى. ومن معانيه:
- المماثلة: “فسواء الشيء مثله”[23]، و”استوى الشيئين وتساويا: تماثلا”[24].
- المعادلة: فسوى الشيءُ الشيءَ إذا عادله، ومنه قوله تعالى: ” إذ نسويكم برب العالمين“[25] أي “نعدلكم فنجعلكم سواء في العبادة”[26]، و”يقال: ساويت هذا بذاك إذا رفعته حتى بلغ قدره ومبلغه”[27]، ومنه قوله تعالى: ” حتى إذا ساوى بين الصدفين“[28]، أي سوى بينهما حين رفع السد بينهما، ويقال: هذا لا يساوي هذا أي: لا يعادله.
- التشابه: يقال “سواسية أي أشباه”[29].
- النظير: الذي بمعنى “المثل والشبه في الأشكال والأخلاق والأفعال والأقوال”[30].
و من الملاحظات التي يمكن تسجيلها انطلاقا مما سبق:
- أن ما يفيد معنى المساواة من التماثل والتطابق التام بين العناصر المتساوية قد يرفضه معنى الزوجية الذي يسمح بالاختلاف في بعض المقامات بين عناصره.
- أن معنى المساواة بين العناصر المتساوية لا يتحقق إلا بالتطابق التام بين هذه العناصر، في حين أن معنى الزوجية قد يتحقق مع حصول التمايز.
- أن الانسجام بين العناصر المتساوية مشروط بالمماثلة في الأشكال والأخلاق والأفعال والأقوال.
- أن المساواة هي من بعض مقتضيات الزوجية وفروعها، والزوجية أعم وأشمل منها.
- أن ما يتعلق من معاني التنوع والتكامل والانسجام بالزوجية، هو منعدم في المساواة الأحادية المعنى.
- والأهم من ذلك كله، هل انتفاء معنى المساواة بين أعضاء الزوجين يعتبر بالضرورة تمييزا انتقاصيا من أحدهما؟
والجواب: أن التتبع السابق لمعنى المساواة في علاقته بمعنى الزوجية يشهد أن انتفاء المساواة بين عناصر الزوجين هو انتفاء لمعنى التماثل والتطابق التام، ولا يعني قطعا الانتقاص والحط من درجة أحد هذه العناصر. وغياب المساواة قد يكون تمايزا في الطبع والجنس والاختصاص، ولكنه ليس تميزا بالتفاوت في الدرجات والمقامات، وهو ما يؤكد على ضرورة استحضار تلك الدقائق والأبعاد في تناول مفهوم المساواة في علاقته بمفهوم الزوجية.
ولهذا السبب والله أعلم استبدل هذا المصطلح – مصطلح المساواة- في القرآن الكريم عند الحديث عن العلاقات الأسرية بمصطلح أبلغ منه للتعبير عن رفض التمييز بين الزوجين وهو مصطلح العدل والإنصاف بعدم الظلم والاعتداء وإعطاء لكل ذي حق حقه، قال تعالى: ” اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن“[31]، وقال أيضا: ” وعاشروهن بالمعروف“[32]
ومن ذلك كله، فعند الحديث عن المساواة بين الزوجين لا بد من صياغة السؤال عن طبيعة هذه المساواة التي نريدها، فحينما تكون مساواة في الأصل والمسؤولية الإنسانية والخلافة في الأرض، تصير واجبة ومطلوبة التحقيق وشريعة الإسلام خير مؤسس لذلك. أما إذا كانت المساواة بمعنى المثلية فذاك من معاني الفردية وليس من معاني الزوجية.
وعليه فقد آن الأوان للتصدي ومناهضة كل النظريات الفاسدة والخطابات المنحرفة الداعية إلى خلق أشكال أسرية شاذة وغريبة عن الطبائع الإنسانية السوية والشرائع الكونية الهادية.
المصادر والمراجع:
1- لسان العرب، 4-429.
2- النجم: 45.
3- لسان العرب، 4- 429
4- القاموس المحيط للفيروز آبادي، ص: 176. المصباح المنير لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، ط: دار الفكر 1-278. لسان العرب، 4-430.
5- المصباح المنير للفيومي، 1-278.
6- الصافات: 22.
7- لسان العرب، 4-431. الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، 26-132، ط: دار الفكر. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، ط: 39- 30-31. الكشاف، الزمخشري، ط: 1977، 3-38.
8- لسان العرب، 4-431.
9- التكوير: 7.
10- أساس البلاغة، الزمخشري، 197.
11- القاموس المحيط، 1103. لسان العرب، 4-340.
12- ابن منظور، 7-342. القاموس المحيط، 1103.
13- لسان العرب، 7-343. الكشاف، 3-480.
14- الزخرف: 13.
15- مفاتيح الغيب، 27-200. الكشاف 3- 480.
16- القاموس المحيط، 76، المصباح المنير، 1-277.
17- النجم: 45.
18- المصباح المنير، 1-277.
19- نفسه، 278.
20- لسان العرب، 4-430. المصباح المنير، 1-277.
21- الشورى: 50.
22- لسان العرب، 4-429.
القاموس المحيط، 1167.
23- تاج العروس، مرتضى الزبيدي، فصل: السين، باب: الواو والياء، ط: دار مكتبة الحياة.
24- الشعراء: 98.
25- معجم العين، ابن أحمد بن فارس، 2-477، ط: 1984.
26- القاموس المحيط، 1178.
27- الكهف: 96.
28- العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، 7-396.
29- لسان العرب، 8-608.
30- البقرة: 220.
31- النساء: 19.
مقال موفق