مكانة صحيحي البخاري ومسلم (3) القضايا الجزئية في الانتصار
مكانة صحيحي البخاري ومسلم (3) القضايا الجزئية في الانتصار/ ذ. يحي زركيط
مكانة صحيحي البخاري ومسلم (3) القضايا الجزئية في الانتصار
بقلم: ذ. يحي زركيط
من الوسائل التي اعتمدها المغرضون للطعن في السنّة النبوية وتقويض بنيانها، التشكيك في صحيحي البخاري ومسلم والطعن في الأحاديث الواردة فيهما. والتركيز على هذين المصنفين الحديثيين بسهام النقد ليس اعتباطيا، وإنما لإدراكهم أنه بإسقاط الثقة بهما تسقط معهما باقي كتب السنة، لمكانتهما عند عامة المسلمين، ولتلقي الأمة لهما بالقبول.
وهذا ما أفصح عنه عبد الجواد ياسين قائلا: “ولأن البخاري ومسلما يجبان ما دونهما من الكتب في مفهوم أهل السنة، فسوف نحاول التركيز على مروياتهما في هذا الصدد.”[1]
إن قيمة الصحيحين عند علماء الأمة قديما وحديثا لم تأت فقط لكون البخاري ومسلم اشترطا جمع الحديث الذي توفرت فيه شروط الصحة، بل بشهادة صيارفة الحديث بعد تمحيص وتحقيق لأحاديثهما، فأقروا جميعهم على ما تميزا به من الدقة والضبط والإتقان، والدراية الواسعة بنقد الروايات، وأنهما على معرفة تامة بعلل الحديث وأحوال الرجال كما شهد لهما بذلك أهل عصرهما ومن جاء بعدهما. وأجمع أهل الحديث على صحة جميع ما فيهما “سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدراقطني وغيره.”[2]
قال العقيلي: “لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة.”[3]
ويقول النووي عن الإمام مسلم: “ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أورده في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات، علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقلّ من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.” [4]
وبالرغم من القيمة العلمية للصحيحين، فقد حمي وطيس التهجم عليهما في العصر الحالي من قبل طغمة المستشرقين الحاقدين وبعض من سار على نهجهم من بني جلدتنا في الجرأة على الدين، حتى أضحى ذكر اسمي البخاري ومسلم مما تشمئز به قلوبهم، بل صار يشكل عقدا نفسية لكثير منهم.
ومحاولة النيل من الصحيحين قد اتخذت أشكالا وصورا متعددة، لكن أبرز ما يتعلق به المشككون:
- اتهام العلماء بتقديس البخاري ومسلم وإضفاء العصمة على صحيحيهما، وكون هذا مما يخالف العقل والواقع. وحجتهم في ذلك أن علماء الحديث أنفسهم – كالدارقطني وغيره- انتقدوا عددا من الأحاديث الواردة في الصحيحين، وتكلموا في عدد من شيوخهما بالنقد والتجريح. إضافة إلى أنهما من جنس البشر معرّضان كغيرهما للسهو والنسيان والخطأ.
- ادعاء وجود عدد من الأحاديث الموضوعة في الصحيحين تتعارض مع القرآن والعقل والعلم، وتسيء إلى مقام النبوة وتصدّ عن الإسلام، يستحيل أن تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
حاول المستشرق جولدتسهير أن يوطّئ لمن بعده الطريق للطعن في كتابي البخاري ومسلم، على أساس أن تلقي الأمة لهما بالقبول ليس مرده إلى تحقيق علمي وإنما على تواطؤ شعبي موروث. يقول في كتابه (دراسات محمدية): “إنه من الخطأ اعتقاد أن مكانة هذين الكتابين مردها لعدم التشكيك في أحاديثهما أو نتيجة لتحقيق علمي، وسلطان هذين الكتابين يرجع لأساس شعبي لا صلة له بالتدقيق الحر للنصوص، وهذا الأساس هو إجماع الأمة، وتلقي الأمة لهما بالقبول يرفعهما إلى أعلى المراتب، وبالرغم من أن نقد هذين الكتابين غير لائق وغير مسموح به، وبرغم التقدير العام للصحيحين في الإسلام صنف الدارقطني (ت385هـ) كتابه “الاستدراكات والتتبع” في تضعيف مائتي حديث مشتركة بينهما.”[5]
آراء هذا المستشرق اليهودي وأفكاره لقيت رواجا لدى بعض المثقفين في بلاد الإسلام، فقادوا حملة شرسة للتشكيك في الصحيحين، واجتهدوا بمقالات منشورة في الجرائد المأجورة، أو بكتب مدعومة من دوائر استعمارية تكيل التهم لهذين الكتابين. وهذه بعض السخافات الرديئة التي نطقت بها ألسنتهم ودونتها أقلامهم:
يزعم محمد حمزة أن تقديس أهل الحديث للصحيحين هو سبب لعدم نقد الروايات الواردة فيهما، لا لأن هذه الروايات صحيحة في الواقع، مفسرا هذا التقديس بكونه نتيجة متخيل ديني مهيمن على العقول، فيقول عن الأحاديث التي صححها الشيخان أنها: “لا تثير لدى الباحثين المحافظين أي رغبة في إعادة النظر في المسلمات التي استقرت عليها عقولهم، ذلك أن أفق انتظارهم ما زال يتغذى ويتم تجييشه بواسطة متخيل ديني يهيمن هيمنة كاملة على عقولهم ونفوسهم، كما أن الهالة التي أحيطت بها كتب الصحاح والقداسة التي بلغت حد الغلو المفرط، كانت تمنع كل طعن في رجال البخاري ومسلم؛ ﺗﺄسياً بقول المُحدِّثين القدامى: كل مَن روى عنه من الصحيح فقد جاز القنطرة، بل إنه لا حاجة تدعو إلى إعادة النظر في صحتها.”[6]
وبهذا، يجب نزع القداسة عن أحاديث الصحيحين، وعدم الثقة بها؛ ليتمكَّن محمد حمزة وأمثاله من دراسة ما ورد فيهما من أحاديث ونقضها.
ويتهم صاحب كتاب (دين السلطان) البخاري ومسلما بالخضوع للسلطة العباسية وإدخال الأحاديث الموضوعة في كتابيهما فيقول: “لكن الرجلين مع صدقهما وإخلاصهما كانا من البشر…ولا ننسى تأثير السلطان ورقابته من جنوده على ما يمكن نشره وتأليفه ضمن مجال سلطنته من آراء قد يوافقون عليها أو يرفضونها، فكانا مضطريْن أن يراعيا كل هذه الأمور حتى يستطيعا أن يعبرا عن رأيهما قدر الإمكان وبالمسموح به، فدخل إلى صحيحهما كثير من الأحاديث الموضوعة، ربما وهما مكرهيْن.”[7]
ولجأ آخرون إلى ادعاء وجود اضطراب في متون كثير من أحاديث الصحيحين وتعارضها مع القرآن وقطعيات العقل والعلم والواقع، فأضفوا على عقولهم صفة القداسة، وأنكروا كل حديث لا يوافق أهواءهم، بل عمموا ذلك أحيانا على كامل الصحيحين.
يقول صاحب كتاب (جناية البخاري) بلهجة المغرور الواثق بنفسه: “صحيح البخاري مليء بالأحاديث المتناقضة في معظم المجالات وعلى مختلف المستويات، وقد استعرضت جزءا يسيرا منها في أبحاث هذا الكتاب، وإذا أردتُ الخوض بعمق وتحليل بعد الاعتماد على علم البلاغة (البيان والمعاني) في اللغة لاحتجتُ إلى مجلدات من الكتب لبيان ذلك.”[8]
هذه الأفكار الرديئة الإخراج وهذا الهراء لم يكن ليُسكتَ عنه ويُفسح له الطريق ليسمم عقول الأجيال الناشئة من أبناء الإسلام، خصوصا وأن أصحاب هذه الافتراءات أصبحت لهم مواقع في الجامعات وعلى منابر الإعلام ويتم تقديمهم للجمهور على أنهم رجال الفكر التنويري وقادة التجديد وأساتذة البحث العلمي.
لكن حقيقتهم غير ذلك، هذا ما خلص إليه أحد المنتصرين للسنة وهو يتحدث عن عيوب الطاعنين في صحيحي البخاري ومسلم، فيقول: “هذه الدراسة أكشف من خلالها أهم العيوب المنهجية والأخطاء العلمية في القراءات الحداثية للصحيحين، وأبين فيها أن ما ادعاه الحداثيون من تجديد في الطرح ما هو إلا تقليد أعمى وفوضى علمية تتحكم فيها النزوات الذاتية، لا تقدم للمعرفة شيئا مفيدا غير الشك المتسلسل والبدائل المضطربة المتناقضة، وأن أطروحاتهم حول الصحيحين واهية في الميزان العلمي، بل هي أطروحات فلسفية بعيدة عن الواقع، تدل على عدم درايتهم بمنهج المحدثين في توثيق الأحاديث وتنقية الأخبار.”[9]
فالواجب إذن يفرض على كل مخلص غيور من أمة الإسلام أن يتصدى لشبهات الجاهلين، ويبطل دعاوى المرجفين، انتصارا لسنة سيد المرسلين.
وكان التركيز في الانتصار للصحيحين على المباحث التالية:
- مكانة الشيخين عند علماء الأمة وذكر مناقبهما.
- منهجهما في تأليف الصحيحين وشروطهما في قبول الحديث.
- تلقي الأمة لكتابيهما بالقبول واعتناء العلماء بهما شرحا وتحقيقا واستنباطا لما فيهما من الفوائد.
- جملة ما انتقده أهل العلم على الصحيحين وبيان ذلك.
- المنطلقات الفكرية والعقدية للطاعنين في الصحيحين.
- الأحاديث المستشكلة في الصحيحين والرد على الطاعنين فيها.
ومن أشهر الأعمال التي دافعت عن مكانة صحيحي البخاري ومسلم:
- “مكانة الصحيحين” خليل إبراهيم ملا خاطر، المطبعة العربية الحديثة بالقاهرة، ط. الأولى 1402ه.
- “الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام” محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، دار ابن حزم بيروت ط. الأولى 1424ه.
- “بحوث مؤتمر الانتصار للصحيحين، نحو منهجية علمية للتعامل مع الصحيحين” مجموعة من المؤلفين، كلية الشريعة بالجامعة الأردنية سنة النشر 2010م.
- “دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بمسائل الاعتقاد، دراسة لما في الصحيحين” عيسى بن محسن النعمي، دار المنهاج للنشر والتوزيع الرياض ط. 2013.
- “طعون المعاصرين في أحاديث الصحيحين الخاصة بأسباب النزول والتفسير بدعوى مخالفة القرآن” علي صالح علي مصطفى، دار المقتبس ط. 2018م
- “إعلاء البخاري تثبيت مكانة الإمام البخاري وصحيحه من خلال رد الشبهات حولهما” عبد القادر بن محمد جلال، دار سلف للنشر والتوزيع الرياض ط. الأولى 1439ه/2018م.
- “من شبهات الحداثيين حول الصحيحين” حسن محمد أحمد حسن، حولية كلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية العدد 38 لعام 1440ه/2019م.
- “المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين، دراسة نقدية” محمد بن فريد زريوح، مركز تكوين للدراسات والبحوث ط. الأولى 1441ه/2020م.
[1] السلطة في الإسلام ص 292، وانظر : دين السلطان، نيازي عز الدين، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام بيروت لبنان، ط. الأولى 1997م. ص 103 – 113.
[2] مقدمة ابن الصلاح ص 29.
[3] مقدمة فتح الباري ج1/7، ابن حجر.
[4] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي، ج1/11.
[5] دراسات محمدية ص 236
[6] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث ، محمد حمزة، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط. الأولى 2015م. ص 291.
[7] دين السلطان، نيازي عز الدين. ص104.
[8] جناية البخاري، إنقاذ الدين من إمام المحدثين ، زكريا أوزون، رياض الريس للكتب والنشر بيروت لبنان، ط. الأولى يناير 2004م. ص150.
[9] العيوب المنهجية للقراءات الحداثية في نقد الصحيحين، نبيل بلهي، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية الجزائر. ص 6-7.