منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

تزكية النفوس والفاعلية التاريخية (4) رجال الرباط نموذجا

إدريس قافو 

0

تزكية النفوس والفاعلية التاريخية (4) رجال الرباط نموذجا

بقلم:إدريس قافو 

إن البحث عن كيفية استعادة الأمة لفاعليتها التاريخية يقتضي:

  • تجاوُزَ القراءةِ التي تتحدث عن القادة العظام من خلال الأحداث فقط، أو من خلال ما تتطلع إليه النفوس من أخبار البطولة، ومن أماني الرغبة في التخلُّص من وقْع هزائم الحاضر باستدعاء انتصارات الأمس…
  • وتجاوُزَ التحدُّثِ عنهم كهِبات (سماوية) أُرسلِت لتُخلِّص الناس مما هم فيه دون بدلهم لأي مجهود.
  • وتجاوُزَ أية قراءة تُغفِلُ الانطلاقة النفسية للتغيير وصناعة الأمل، أو تتجَنَّب الحديث عن البناء التربوي الذي أفرز تلك القيادات…

هدف هذا المقال

هو تقديم إشارات من سيرة يوسف بن تاشفين، أحد أعلام دولة المرابطين، والذي لخَّص صاحب (سير أعلام النبلاء) ([1]) فاعليته التاريخية بقوله: (تملك مدائنَ كبارًا بالأندلس. ولو سار لتملك مصر والشام) ([2])، لعل تلك الإشارات تكون مفاتيح لاكتشاف سر الفاعلية التاريخية في حياة أمة رسول الله ﷺ.

  • التزكية الروحية وظهور دولة المرابطين وقائدهم يوسف بن تاشفين

قامت دولة المرابطين في الفترة (1056 م- 1147 م (وسُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى الرباط ([3]) الذي أقامه مؤسسها عبد الله بن ياسين لتربية الرجال، وقد اختار التسمية تعبيرًا عن أهدافه ([4]). ومن مؤشرات قوة انطلاقة هذه الدولة (رغم أنها لم تدم طويلا) أنه منذ البعثة النبوية، وعلى مدى خمسة قرون، لم تؤسس دولة ناجحة مستقرة في المغرب، بل عُرفت قبائله بالجفوة والغِلظة وعدم الاستقرار ([5]) وكان التشرذم والعصبية القبلية والظلم هي السمة المهيمنة على الحياة السياسية. وتأسيس دولة قوية، وتوحيد القبائل المتناحرة، وتوحيد الأندلس بعد تقسيمها بين ملوك الطوائف الذين لازال المثلُ يُضرَب بهم في الفرقة والتشتُّت، يستوجب البحث عن سر الانطلاقة القوية للمرابطين.

  • إنجازات (الأب الروحي) عبد الله بن ياسين

بدأ عبد الله بن ياسين بالتعريف بالإسلام إلى أن اصطدم بوجهاء القبائل، وتعرَّض للتضييق، وحاولوا قتله ([6])، وهدموا بيته ([7])، مما اضطره إلى الهجرة إلى (جزيرة)، وهناك بدأ مرحلة جديدة من البناء، فأسس رباطاً لتربية الرجال، وبدأت المرابطة بسبعة أشخاص، وأقاموا في رباطهم ثلاثة أشهر دون أن ينضم إليهم أحد ([8])، وكان الرباط خاضعاً لنظام صارم، وكانت ثمرةُ هذا الرباط طليعة قوية متماسكة أَلَّفت حولها (حاضنة شعبية)، وقد تحدث المؤرخون عن هذه الطليعة من المرابطين )وأوردوا كثيراً من ضروب الشجاعة والإقدام..، فكانوا أثبت من الهضاب ولم يحفظ لهم فرار من زحف) ([9]). وفي جَوِّ المرابطين نشأ ابن تاشفين، وهو ثمرة من ثمار ذلك الرباط. و(لولا أولئك الرجال) لقِيل له، وهو يريد العبور إلى الأندلس، كما قيل لموسى عليه السلام (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ([10]).

  • إنجازات يوسف بن تاشفين

لقد حقق ابن ياسين إنجازات مُضمرة في النفوس، بينما حقق ابن تاشفين إنجازات وانتصارات كبيرة ملموسة في دنيا الناس لازالت مصدر إلهام، ويكفيه شهادةً على ذلك أن سيرتَه جعلت الإمام الغزالي، (حجة الإسلام) والخبير بالنفس البشرية، يُعجب به، بل واعتزم لِلِّحاق به، لكن توفي ابن تاشفين والغزالي في مصر، وهو في طريقه إلى المغرب.

وقبل هذه الانتصارات الكبيرة التي حققها ابن تاشفين في دنيا الناس، وأثناها وبعدها، حقق انتصارات أكبر من انتصار(الزلاقة) في ساحة نفسه، فلم يُغْرِه تَرَفُ الملك، ولم تُطْغِه نَشْوَة ([11]) السلطة.

  • مقارنة بين إنجازات الرجلين

لقد حقَّق ابن تاشفين ما حقق والآمال موجود في النفوس، أما ابن ياسين فقد بدأ التغيير واليأس متحكم في الإرادات؛ بدأ التغيير في الفترة التي يوصف فيها حتى أكرم البشر(الأنبياء عليهم السلام) بالجنون. قال تعالى: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) ([12])، قالوا (مجنون) لأنه يحاول فعل ما يرونه مستحيلا… ويُحدِّثهم بما لم تستوعِبه عقولهم، ويسير عكس مَأْلوفِهم وعاداتهم…

إن بثَّ الأمل والإيمان بمشروع ما لا يقل عن إنجاز ذلك المشروع. وإن المنعطفات الحاسمة في التاريخ هي تلك اللحظات التي يولد فيها الأمل، وتنتقل فيها أمة من الناس من اليأس والتخبط إلى الإيمان بمشروع مستقبلي. وعبد الله بن ياسين كان نموذجاً في بثِّ الأمل في أصحابه، فحين أُخرِج من مسكنه وهُدِم بيتُه لم ييأس، بل كان يُحدِث أصحابه بفتح العالم ([13])، وهذا الطموح الذي لا حدَّ له، مع الأخذ بالأسباب، هو سر من أسرار الانبعاث.

  • خلاصة السلسلة وسر الفاعلية التاريخية

منطلق الفاعلية هو:

 ثانيا: وجود قيادة ربانية وتنظيم، ثم تربية متكاملة بما هي: (تغيير لنفس الإنسان، وبعث لإرادته بتصفية رؤيته لنفسه ومصيره وللعالم، وتحرير لعقله ببث روح الإيمان بالغيب. وبالتربية المتكاملة يصبح الإنسان هو الفاعل التاريخي الذي يؤثر فيما حوله) ([14]). سواء كانت تلك التربية في دار الأرقم بن أبي الأرقم بقيادة رسول الله ﷺ، أو في مدارس عبد القادر الجيلاني ومثيلاتها، أو رباطات أحمد السنوسي في ليبيا، وعبد الله بن ياسين في المغرب، والمهديُّ السودانيُّ، وأحمد بن عرفان في الهند…

ثالثا: طموح لا يحدُّه إلا شرع الله؛ أصله بشارة رسول الله ﷺ: (إنَّ اللَّهَ زَوَى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنْها) ([15])، وبرنامجه ما عبَّر عنه ربعي بن عامر في تفاوضه مع رستم حين قال له: (الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام…) ([16]).

رابعا: إرادة تحاول فعل المستحيل من أجل تحقيق الممكن؛ عبَّر عنها الصحابة بصور تفوق العدَّ، وعبَّر عنها عبد الله بن ياسين حين هُدِمَ بيته وهُجِّر ولم يُثْنِه ذلك عن مشروعه، وعبر عنها في زماننا أحمد ياسين (المقعد /المجاهد) الذي قَضَّ مضاجع الاحتلال بكرسيه المتحرك، وعبَّر عنها أطفال الحجارة الذين تحدَّوا دولة الاحتلال التي لا تجرؤُ الدول العربية مجتمعة على التنديد(الشكلي) بجرائمها، ولا يجرؤ مفكرو الغرب ودعاة حرية التعبير أن يشككوا في مزاعمها حول أعداد من تعرضوا (للمحرقة)…

وأولا ووسطا وآخرا: توكلٌ على الله، وإيمانٌ بالغيب، ويقينٌ بالآخرة والجزاء والعقاب، ففي قصة طالوت في سورة البقرة لم يثبت إلى النهاية إلا الذين ذُكِر وصفهم في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ([17]).

أما سر وَأْدِ([18]) الفاعلية التاريخية فهو توريث قيادة الأمة بالنسب و(المُحَاباة): فقد استعاد صلاح الدين الأيوبي القدس، ثم ضيَّع ورثته الإنجازات؛ استنجد الكامل بفريديك الثاني، وسلَّمه ما حرره صلاح الدين بشرط أن يسانده ضد أخيه المعظم عيسى صاحب دمشق. وقبْل ابن تاشفين كان معيار إسناد الحكم هو الكفاءة ([19])، وبعده بدأ التوريث وبدأ الانهيار. وقبل ذلك كله انقلب بنو أمية على الخلافة، فظهر ما كان رسول الله ﷺ قد حذَّر منه بقوله:( هَلاكُ أُمَّتي علَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِن قُرَيْشٍ)([20])، ثم ظهرت الفرق والظلم، و(الظلم مؤذن بخراب العمران)([21]) والإنسان، مصداقاً لقوله تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)([22]). والله غالب على أمره.


([1]) _ سير أعلام النبلاء هو كتاب في علم التراجم ألفه الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي

([2]) _ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 14، ص 228

([3]) _ الرباط: لغة مصدر رابطت أي لازمت، أو اسم لما يربط به الشيء أي يشد، قاله ابن منظور: لسان العرب، مادة (ربط)، ج 7، ص 302. وفي الحديث 🙁 أَلَا أَ دلُّ كمْ عَلَى مَا يَمْ حو الله بِهِ الْخَطَايَا … وَانْتِظَار الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكم الرِّبَاط). واصطلاحا: الإقامة في الثغور للحراسة، وعند بعض الصوفية مكان للعبادة.

([4]) _ أنظر العبادي، أحمد مختار: في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية، بيروت، ص 271.

([5]) _ محمود، حسن أحمد: قيام دولة المرابطين صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 58.

([6]) _ انظر أمكاسو، عمر: المشروع المرابطي في الأندلس بين النجاح والإخفاق، ص 41.

([7]) _ المصدر نفسه، ص 40.

([8]) _ سعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين في الأندلس، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 1405 ه/ 1985 م، ص 26

([9]) _ محمود، حسن أحمد: قيام دولة الم ا ربطين صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى، ص 159.

([10]) _ سورة المائدة: الآية 24

([11]) _ النَّشْوَةُ: أَوَّلُ السُّكر

([12]) _ سورة الذاريات: الآية 52

([13]) _ العالم في ذلك الوقت هو أوروبا وإفريقيا

([14]) _ ياسين، عبد السلام: الإسلام غدا (أو حركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة)، ص600.

([15]) _ رواه مسلم في صحيحه

([16]) _ الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، ج 3، ص 520.

([17]) _ سورة البقرة: الآية 249.

([18]) _ وَأْدُ البنت: دفنها في التّراب حيَّةً، وهي عادة جاهليّة.

([19]) _

([20]) _ رواه البخاري في صحيحه.

([21]) _ عنوان في مقدمة ابن خلدون

([22]) _ سورة النمل:52.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.