منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

تزكية النفوس والفاعلية التاريخية (1) صلاح الدين الأيوبي نموذجاً

تزكية النفوس والفاعلية التاريخية (1) صلاح الدين الأيوبي نموذجاً/ إدريس قافو

0

تزكية النفوس والفاعلية التاريخية (1) صلاح الدين الأيوبي نموذجاً

بقلم: إدريس قافو

شهدت الأمة في القرن الرابع والخامس الهجري حالة من الضعف والتشتت المذهبي والفوضى السياسية ([1])، وترف وتبذير وبذخ الأمراء، وظهور طبقة قطاع الطرق، الذين عاثوا في الأرض فسادا… وقد أدت تلك الحالة من الضعف إلى احتلال القدس سنة 492 ه/ 1099 م. وما أشبه الليلة بالبارحة.

وفي رحم تلك الغثائية السياسية والمجتمعية نشأت حركة مجتمعية كُلِّلت جهودُها بتحرير القدس سنة 583 ه/ 1187 م، بقيادة صلاح الدين الأيوبي. ومن يقرأ التاريخ بانتقائية، ويريد أن ينتصر لغثائية الحاضر بعقلية ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ([2])، يستدعي أمجاد الماضي، ويتمنى ظهور صلاح الدين جديد، دون أن يقنع نفسه أن للتغيير سننًا لا تحابي أحدًا، وأثمانًا لابد أن تدفع؛ فحين يغيب فقه سنن الله في الكون، ويستحكم اليأس، ويستبد الأمل بالعقول، يستعيد الناس المحطات (الاحتفالية) في تاريخ الأمجاد، فيتمنون ظهور القائد (الملهم) الذي يعفيهم من كل التكاليف، والقائد القادر وحده في ساعة الصفر أن يلقي خطبة تلهب الحماس، ويعلن الحرب، فيستعيدَ للأمة كرامتها! ويمنع نهب خيراتها! ويبني اقتصادها وقوتها! ويستعيدَ لها مجدها..، ثم يجعلها خير أمة أخرجت للناس!

وللاعتبار بتاريخ صلاح الدين وبأحداث التاريخ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ ﴾([3])، ينبغي تجنب المفترى منها، ومن الافتراء الخلط بين العلل والنتائج، وذكر أنصاف أو أعشار الحقائق. وحتى لا يكون القارئ للتاريخ ضحية لأنصاف الحقائق، أو ضحية لقراءة العاجز المشار إليه في الحديث النبوي (والعاجزُ مَنْ أتْبعَ نَفْسَه هواها، وتمنَّي علَي اللهِ) ([4]) لا بد من التذكير ببعض الحقائق:

  • منطلق كل عملية تغييرية هو النفس البشرية

إن منطلق كل عملية تغييرية سلبية كانت أو إيجابية، هو نفس الإنسان مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)([5]). و(من جذور ما في القلوب يتحدد موقف الأفراد، ومن المواقف الفردية تتجمع مقومات الموقف الجماعي والحركة الاجتماعية) ([6]).

  • التغيير عملية تراكمية:

إن مؤشرات التغيير قد تكون بطيئة، وقد تشهد حالات من المد والجزر([7])، لذلك لا يلاحظها إلا المتخصصون، وعندما تأتي الأحداث الكبرى التي ليست في حقيقتها إلا تتويجًا للتغيير الذي وقع في النفوس، وللتراكمات التي وقعت في المجتمع، تُنسب تلك الأحداث إلى من باشرها في زمن وقوعها دون استحضار كل التراكمات التاريخية.

  • التغيير عملية منوطة بقَوْمٍ وليس بفرد

في الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)([8])  إشارة إلى بعض قوانين التغيير، منها أن الله تعالى ربط وقوعه بوجود قوم، والقوم في اللغة (الجماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها)([9]). وقيل (سمي القوم قومًا لقيامهم بالأمور) ([10]) أو بأمور غيرهم. وتعليمًا لهذه الأمة قَرَن الله تعالى في القرآن الكريم بين تأييده لنبيه صلى الله عليه وسلم بنصره وتأييده له بالمؤمنين، وهو القادر على نصره بدون أسباب فقال: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ([11])، وفي ذلك تأكيد على ضرورة الأخذ بالأسباب الأرضية، وفي مقدمتها الرجال.

  • صلاح الدين (أو القائد السياسي/ العسكري) مجرد ثمر من ثمار القيادة التربوية

في إطار البحث عن الأسس النفسية للتغيير الذي وقع في حال الأمة والذي أدى إلى تحرير القدس، يقدم ماجد الكيلاني من خلال كتابه (هكذا ظهر جيل صلاح الدين الأيوبي وهكذا عادت القدس)، تحليلا يُرجِع منطلقاتِ التغيير إلى الحركة المجتمعية التي قادتها مدارس التعليم والتربية والتزكية، وفي مقدمها المدرسة الغزالية ([12]) وامتداداتها ([13]) التي خرجت جيلا جديدا (جسد تكوينه النفسي وسلوكه العملي تعاليم الإسلام وأخلاقه من غير أن تلوثه العصبيات المذهبية أو الشهوات الدينية)([14])

فقد كان للغزالي تأثير كبير على أطر الدولة كالوزير نظام الملك، وتأثير على كثير من العلماء والفقهاء بما فيهم الحنابلة الذين كان لهم موقف متشدد من التصوف، ومنهم شيوخ عبد القادر الجيلاني (في الفقه) الذي كان سنه 35 سنة عند وفاة الغزالي، والذي سيؤسس فيما بعد مدرسة متميزة سيمتد تأثيرها عبر العالم الإسلامي وصولا إلى الأندلس، وهذا التأثير الذي بدأه الغزالي وقاده عبد القادر الجيلاني من خلال مدارسه للتربية والتعليم والمدارس المتأثرة بمنهجه كان انتصارًا لمنهج التزكية والصحبة الصوفية حتى أصبحت أمرًا عاديًا في القرن السادس والسابع، وأصبحت الرباطات ([15]) منتشرة في المشرق والمغرب، وهذه الرباطات قادت حركة إصلاحية في المجتمع، وموازاة مع تلك الحركة الإصلاحية التي كانت تسري في القاعدة الشعبية للأمة، كانت تتشكل نواة دولة بين الموصل وحلب، وكانت بدايتها باقتراح الوزير نظام المُلك المعجب بأبي حامد الغزالي، على السلطان ملكشاه تولية الحاجب أقسنقر مدينة حلب ونواحيها، وأقسنقر هو والد عماد الدين زنكي مؤسس الدولة الزنكية في الموصل، وقد جذبت هذه الدولة كثيرا من ذوي التوجهات الإصلاحية، لما عرف من عدلها، وممن التحق بها والد صلاح الدين الذي كان واليا بتكريت وعمه شيركوه أول من ولي مصر من الأكراد الأيوبيين.

وهذه الموجة من الإصلاح التي كانت ترتكز أساسًا على تزكية النفوس هي التي أوجدت الرجال الذين ساندوا صلاح الدين في مهامه وجهاده، وهي التي غيرته وأثرت في توجهاته، (فتاب من الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بلباس الجد والاجتهاد)([16]) ، وكان في جوالته في المعسكر إذا مر بخيمة بِها عدد من الجند يقرَؤون كتاب الله ويَقُومون الليل، يقول: من هنا يأتي النصر، واذا مرَّ على أُخْرى، ووجد أهلها نائمين، يقول: من هنا تأتي الهزيمة

  • الخلاصة

خلاصة هذه النبذة التاريخية التي بُتِرت، للاختصار، كثيرٌ من معالمها الأساسية هي أن عامل تزكية النفوس كان عاملا أساسيا في التغيير الذي حدث في الأمة، وأن القيادات العسكرية الناجحة ما هي إلا ثمرة من ثمرات تلك التزكية التي قادها رجال ربانيون. لذلك يمكن القول: إن كل قيادة في المستقبل تريد أن تكون فاعلة إن أخطأت مدخل تزكية النفوس كمنطلق للفاعلية وللتغيير فهي تحاول إتيان البيوت من غير أبوابها.


([1]) _ انظر ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 197 (وثارت العامة مع جيش الخليفة فكسروا جيش السلطان وقتلوا خلقا من الأمراء، وأسروا آخرين ونهبوا دار السلطان..، حتى أنهم نهبوا الصوفية..، ونالت العامة من السلطان، وجعلوا يقولون له يا باطني تترك الفرنج والروم وتقاتل الخليفة).

([2]) _ سورة يوسف: الآية 7

([3]) _ سورة يوسف: الآية 111

([4]) _ رواه التِّرمِذيُّ، وقال: «حديثٌ حسن»

([5]) _ سورة هود: الآية 11

([6]) _ ياسين، عبد السلام: سنة الله، ص54

([7]) _ في غزوة الأحزاب، إي في السنة سادسة للهجرة قال الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (سورة الأحزاب: الآية 12

([8]) _ سورة هود: الآية 11

([9]) _ مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إبراهيم، مصطفى وآخرون: المعجم الوسيط، دار الدعوة، باب القاف، ج 2، ص 768

([10]) _ الأصفهاني، الراغب: تفسير الراغب الأصفهاني، ج 1، ص 467

([11]) _ سورة الأنفال: الآية 62

([12]) _ المدرسة الغزالية: نسبة على أبي حامد الغزالي (ت: 505 ه)، وتقوم على مبدأ (الانسحاب ثم العودة)؛ ينصرف أصحابها إلى خاصة أنفسهم حتى إذا زكت نفوسهم عادوا إلى المجتمع من جديد ليسهموا في إصلاحه. ويقوم منهجها على الاشتغال بالأمراض التي تنخر في داخل المجتمع الإسلامي. انظر الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين الأيوبي، وهكذا عادت القدس، ص 156 و97.

([13]) _ امتدادات المدرسة الغزالية: يقصد بها الكيلاني مدرسة عبد القادر الجيلاني ومدارس أخرى تعتمد نفس المنهج، وذكر منها 34 مدرس ولكل مدرسة فروعها، وتمتد على طول العالم الإسلامي، ومنها مدرسة أبي مدين المغربي.

([14]) _ الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين الأيوبي، وهكذا عادت القدس، ص 223

([15]) _ الرباطات ج الرِّباط: (هو الإقامة في مكان بالثَّغْر الذي ليس وراءَه الإسلام، وأيضا واحد الرِباطات المبنيَّة للفقراء الصوفية ويسمَّى الخانقاه والتكية). انظر البركتي، التعريفات الفقهية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1424 ه/ 2003 م، ص 102.

([16]) _ ابن شداد، بهاء الدين، يوسف بن ا رفع بن تميم بن عتبة الأسدي الموصلي، أبو المحاسن، )ت: 632 ه): النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، تحقيق: جمال الدين الشيال، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1415 ه/ 1994 م، ص 81

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.