منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

بل أترك الحكومة وأختار أفراداً… فأربيهم (3) تزكية النفوس والفاعلية التاريخية 

بل أترك الحكومة وأختار أفراداً... فأربيهم (3)  تزكية النفوس والفاعلية التاريخية / الأستاذ إدريس قافو

0

بل أترك الحكومة وأختار أفراداً… فأربيهم (3)  تزكية النفوس والفاعلية التاريخية 

بقلم: الأستاذ إدريس قافو

بعد موجة التغيير التربوي التي استهدفت بالدرجة الأولى نفس الإنسان، والتي قاده الإمام الغزالي ثم الشيخ عبد القادر الجيلاني وآخرون، والتي كان من ثمارها أن تُوِّجت بتحرير القدس بقيادة صلاح الأيوبي بعد (مدة)، ننتقل إلى موجة أخرى، لكنها إصلاحية استهدفت بالدرجة الأولى فكر الإنسان وعقله، قادها جيل النهضويين الأوائل: مدرسة محمد عبده (1848م-1905م) ومحمد رشيد رضا(1865م-1935م) وجمال الدين الأفغاني (1838م – 1897م). ومقولة (بل أترك الحكومة وأختار أفرادا من المستعدين فأربيهم)، الواردة في العنوان، هي جملة لخَّص بها محمد عبده نتائج محاولاته الإصلاحية وهو يقارن ثمارها بإنجازات المهدي السوداني الذي كان يفعل الأفاعيل في الإنجليز المحتلين لمصر والسودان. فما ملخص تجربتي الرجلين؟

ملخص تجربة محمد عبده (1849م – 1905م)

هو أحد رواد ودعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي. قاد مع أستاذه ورفيقه جمال الدين الأفغاني نهضة فكرية إصلاحية امتد تأثيرها إلى كل العالم الإسلامي، وقد حاول طرق كل أبواب الإصلاح، سواء بمشاركته مع الأفغاني في إصدار صحيفة العروة الوثقى من باريس، أو باستغلال منصبه كمفتي للديار المصرية، أو من خلال محاولات إصلاح مؤسسة الأزهر، أو تأييده في الأخير للثورة العرابية… إلا أنه بعد عودته من المنفى إثر تأييده تلك الثورة، وبعد عدم استجابة شيخ الأزهر لمطلبه في إصلاح الأزهر، نجده يبث شكوى المصدور من (حقيقة أخلاق أهل الأزهر وعقولهم، ومبلغ علومهم وتأثيرهم في الوجود) ([1])، ويسلي نفسه بالرجوع إلى الأصل الذي ينبغي أن ينطلق منه كل تغيير: تغيير ما بالنفس بالتزكية، فيقول : (فإن صرفتني الصوارف إلى اليأس من إصلاحه [يقصد الأزهر] فإني لا أيأس من الإصلاح الإسلامي، بل أترك الحكومة وأختار أفرادًا من المستعدين فأربيهم على طريقة التصوف التي رُبِّيت عليها ليكونوا لي خلفا في خدمة الإسلام) ([2]) . فهذا هو ملخص التجربة الإصلاحية لمحمد عبده الذي طرق كل أبواب الإصلاح، والذي كان يتابع مع الأفغاني انتصارات (المهدي السوداني) الباهرة من باريس، ثم حاول اللحاق به فلم يستطع ([3]).

ملخص تجربة المَهْدي السُّوداني (1843 م – 1885م)

هو محمد أحمد بن عبد الله: ثائر، كان لحركته أثر كبير في حياة السودان السياسية. قرأ الفقه والتفسير، ثم تصوف وانقطع مدة خمسة عشر عاما للعبادة في جزيرة في النيل الأبيض، وكثر مريدوه، ودعا إلى (تطهير البلاد من مفاسد الحكام) وادعى سنة 1881م أنه المهديّ المنتظر ([4]). وساقت الحكومة المصرية جيشا لقتاله بقيادة جيقلر باشا (Giegler) البافاري، فهزمه المهدي، وهاجمه جيش مصري آخر بقيادة هيكس باشا ((Hicks فأبيد. وهاجم بعض أتباعه (الخرطوم) وفيها غوردن باشا Charles George Gordon)) فقتلوه وانقاد السودان كله للمهدي ([5]).

هل (اترك الحكومة …) قرار مبدئي دائم

إن الإشادة ببعض من تسموا صوفية، واختيار عنوان (بل أترك الحكومة …)، وما قد يوحي به من دعوة لترك الاهتمام بالشأن السياسي، قد يفهم منه المستعجل للمشاركة السياسية (بل الانتخابية ([6]) فقط) أنه إعراض عن باب مهم للدعوة، ويفهم منه العاجز الذي يُؤْثِرُ السلامة أن التزكية الروحية يجب أن تكون في الخلوات، ويفهم منه المتردد في المواجهة أن ندع الشأن العام حتى تكتمل التربية. وهذا يقتضي توضيحا

  • أولا: (الحكومة) كباب رئيس للتغيير

إن مدخلَ المشاركة الشكلية في الحكومة، كباب رئيسي لبناء صف الدعوة، هو بابٌ غير حكيم، إذ لن يدخل منه إلا الانتهازيون والمؤلفة قلوبهم، والشواهد على ذلك كثيرة:

      • من السيرة النبوية

حين أعيت الحيلة قرشا، وأدركوا خطورة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطروا للدخول معه في مفاوضات -بعد فشل كل محاولات التضييق عليه والاضطهاد له-، قالوا له (إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا … وان كنت تريد به ملكا ملكناك علينا…)([7])، وكان من المتصور من باب (الحكمة) ([8]) أن يقبل منهم المال والحكم على أن يُجمِع في نفسه استعمالهما للتمكين لدعوته ورسالته، لكنه لم يفعل…

      • من التاريخ المغربي الحديث

لقد دخلت كثير من القوى السياسية المغربية (وطنية ويسارية وإسلامية) الى الحكومة بشعار (التغيير من الداخل)، لكن النتيجة كانت واحدة، ولم تكن سوى دوَّامة تتكرر فيها مآسي الماضي، و(مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبَارِحَةِ) ([9]).

ففي أوج حماس (الاستقلال)، وأوج قوة حزب الاستقلال، عُيِّن عبد الله إبراهيم وزيرا أولا (بين 1958 و1960)، وهو من الجناح اليساري المتشكل في رحم حزب الاستقلال فساهم ذلك في انشقاق الحزب، ثم وُضِعت العراقيل أمام الوزراء التقدميين حتى أصبح الكثيرون (يرون أن من الفضل لعبد الله إبراهيم أن يقدم استقالته من أن يفسح المجال للقصر للاستهزاء به) ([10]) ثم في الأخير أفْهَمَهُ الملك أن الحكومة (أنجزت مهمتها)، وأنه (سوف يترأس شخصيا الحكومة الجديدة لضمان الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي) ([11]).

وتولى (حزب الاتحاد الاشتراكي) بزعامة اليوسفي رئاسة الحكومة في فترة انتقالية (1998م – 2002م تحت شعار التناوب الدمقراطي، وكانت النتيجة انشقاق الحزب وفقدان شعبيته وشعبية أجهزته النقابية، وفي أوج موجة الربيع العربي سُمِح لحزب العدالة والتنمية (الإسلامي) بنيل ما يستحق من أصوات المشاركين في الانتخابات، ثم أُسندت له (رئاسة) الحكومة، وبعد ذلك لم يتكرر التاريخ بل أخطاء الماضي هي التي تكررت، وهو الآن في طريقه إلى الانشقاق بعد إطلاق مبادرة (الوطن أولا ودائما). ولا جديد في التاريخ إلا ما نسيناه أو جهلنا منه.

ثانيا: هل نترك الشأن العام حتى تكتمل التربية و(تزكية النفوس)؟

إن من ينتظر أن تكتمل التربية في الخلوات ويسترخي بدعوى زهادة عاجزة مستسلمة ويَكِلُ إلى الأجيال غير المـُسمَّاة حَمْل عِبء التدافع مع الباطل في الميدان قد حاد عن السنة الكاملة لرسول الله صلى عليه وسلم. ومن يحاول الانقضاض على السلطة أو مشاركة أصحابها (وهي غير قابلة للقسمة) دون أن تكون له قاعدة تلقت تربية ترفعها عن الأنانيات والغضب والاستعجال … وعن المسكنة والقبول بأشباه الحلول… إنما يغامر بتجربة مآلها الفشل والإجهاض.

وفي جواب عن سؤال من أين يبدأ التغيير؟ (بانقلاب من أعلى يَفرِضُ بوازع السلطان ما يُوجِبُه القرآن، أم بتنشئة بطيئة صابرة لأجيال الخير حتى يأتي التحول من الجذور؟)، يجيب أحد خبراء التربية بقوله: (يخطئ في نظرنا من يتخذ من أحد طرفي المعادلةِ مبدئيةً ثابتةً مُغمضةً العين الأخرى) ([12]). ويرى أن الجمع بين الرؤيتين إنما يقدُره أهل الزمان والمكان. وأن الترجيح بين الانتظار أو المناجزة موكول لاجتهاد من هم داخل المعركة.

خلاصة

حتى لا نكون ممن يُعرِضون عن دروس التاريخ، أو ينسون عبره، فيستأنفون مآسي الماضي وتجاربه الفاشلة بالشروط السالفة نفسها، نقول إن منطلق التغيير المنشود لحاضرنا، وأساس استعادة الفاعلية التاريخية لأمتنا، هو تغيير ما نفوسنا، لكن وسط معمعان الأحداث، و(صخب) المصالح المتضاربة، والفتن الثائرة… وليس في الخلوات كما فعل من ألجأتهم ظروف استثنائية إلى ذلك، وإن (تغييرَ الهياكل- إن لم يصحبْه تغييرٌ الإنسان ويسايِرْه- تضييعٌ للجهد في دوامة التجارب الفاشلة) ([13]). واعتبار النفس منطلقَ التغيير يجب ألا يكون كلمةَ حق أُريدَ بها تبريرُ ضعفٍ عن المشاركة السياسية أو تبريرُ جُبنٍ وتردُدٍ يسوِّف اتخاذَ القرارات الحاسمةَ في الشأن العام إلى أجل غير مسمى.


([1]) _ عبده، محمد: الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده، ج 3، ص 193.

([2]) _ المصدر نفسه، ج 3، ص 193.

([3]) _ عمارة، محمد: جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق فيلسوف الإسلام، ص 250

([4]) _ (ممن ادعى المهدوية رجال صالحون، قد يكون لُبِّس الأمر عليهم لما يرونه من منامات. ومنهم أدعياء خُلّص ومشعوذون) أنظر ياسين: سنة الله، ص333. لا يتسع المجال هنا للتفصيل أين أصاب الرجل؟ وأين اجتهد فأخطأ وله أجر الاجتهاد؟ وأين اضطرته الضرورة إلى أخف الضررين؟ وكان ذلك صوبا وإن بدا للجاهل بالضرورة أنه أخطأ… وأين أخطأ عن قصد؟)

([5]) _ انظر الزركلي: الأعلام، 6 ج، ص 20، والبعلبكي، منير: معجم أعلام المورد، ص 437

([6]) _ في غياب القوة الضاغطة على الاستبداد لانتزاع الحقوق، فإن المواطن ليس له إلا الحق في رفع نسب المشاركة في الانتخابات، والظهور في طوابير الانتظار أمام مكاتب التصويت إذا حضرت كمرات التصوير، ليقال إن المؤسسات المنتخبة تمثل الشعب، والإرادة الوطنية.

([7]) _ ابن هشام: السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 293

([8]) _ (الحكمة): أضع الحكمة بين قوسين لأن الحكمة الحقيقية هي ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

([9]) _ أول من قاله الشاعر “طرفة بن العبد” حين كتب عمرو بن هند بقتله الى عامله بالبحرين.. وأوهمه بأنه يكتب إليه بأن يصله.. فقال طرفة يلوم أصحابه في خذلانهم له: كل خليل كنت خاللته.. لا ترك الله له واضحة/ كلهم أروغ من ثعلب.. ما أشبه الليلة بالبارحة.

([10]) _ (John waterbury): أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم وعبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، مؤسسة الغني للنشر، الرباط، ط3، 2013م، ص294.

([11]) _ (John waterbury): أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ص295

([12]) _ ياسين، عبد السلام: حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، ص112.

([13]) _ ياسين، عبد السلام: المنهاج النبوي، ص261

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.