منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

في اليوم العالمي للمرأة: تأملات في حديث أم زرع بين خيرية الرجل واعتراف المرأة، ودعوة للنسج على المنوال

المهدي اليونسي

0

في اليوم العالمي للمرأة
تأملات في حديث أم زرع بين خيرية الرجل واعتراف المرأة، ودعوة للنسج على المنوال

بقلم: المهدي اليونسي

    حديث أم زرع حديث غزير المعاني، كث الشكاوي، جزيل المباني، حرز في سبك مخيلات الرجال، وأديم في قدرة النساء على قراءة الرجال، ومجمع لنصف العالم المنشغل بالنصف الآخر، فيه لذة أدبية وطراوة اجتماعية، وبيانات سياسية وتربوية واقتصادية، كُتب بتاء التأنيث ورُوي بلسان التأنيث، وأنشر قراءة فيه في يوم التأنيث، حلحلة صغيرة لتاء التأنيث، فمعذرة إن زاغ التذكير  عن جادة التأنيث..

     أخرج البخاري رحمه الله بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن، وتعاقدن، أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا.

فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غَثّ، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، لا سمين فينتقل. قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أَذَرَه، إن أَذْكُرْهُ، أَذْكُرْ عُجَرَه وبُجَرَه. قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق، إن أنطقْ أُطَلَّق، وإن أسكت أُعَلَّق. قالت الرابعة: زوجي كليل تِهامة، لا حَرٌّ ولا قُرٌ ولا مخافة ولا سآمة. قالت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِدَ، وإن خرج أًسٍدً، ولا يَسأل عما عَهِدَ. قالت السادسة: زوجي إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ، وإن اضطجع التفَّ، ولا يولج الكفَّ ليعلم البَثّ. قالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء، كل داء له داء، شجّكِ أو فَلَّكِ أو جمع كلا لك. قالت الثامنة: زوجي، المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرْنَب. قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النِّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النَّاد. قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارِح، وإذا سمعن صوت المِزْهَر أيقن أنهن هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع، أَنَاسَ من حلي أذني، وملأ من شحم عَضُدَي، وبَجَّحَنِي فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غُنيمة بشق، فجعلني في أهل صَهِيلٍ وأَطِيطٍ، ودائس ومُنَق، فعنده أقول فلا أُقبَّح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنَّح. أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، عُكُومُها رَدَاح، وبيتُها فَسَاح. ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كَمَسَلِّ شَطْبَة، ويشبعه ذراع الْجَفْرَة. بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طَوْعُ أبيها، وطوع أمها، ومِلءُ كسائها، وغيظُ جارتها. جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تَبُثُّ حديثنا تبثيثا، ولا تنقِّث ميرتنا تنقيثا، ولا تملأ بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تُمَْخَض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهْدين يلعبان من تحت خَصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سَرِيّا، رَكِبَ شَرِيّا، وأخذ خَطِّيا، وأراح علَّي نعما ثَرِيَّا، وأعطاني من كل رائحة زوجا، وقال: كلي أم زرع، ومِيري أهلك، قالت: فلو جمعتُ كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كنت لك كأبي زرع لأم زرع”[1]

تأملات في الحديث:

   أقتصر  في الحديث على مقطع أم زرع تيمنا برسول الله ﷺ الذي ركز عليه، وتميزه عن بقية المقاطع لما فيه من الفوائد الجمة، وهذه بعض التأملات فيه:

الشهادة الاعتبارية للتجمع نسائي: المرأة الزوجة لها معرفة خاصة بالرجل لا تخطئها العين، خصوصا ما يرتبط بالوجدان، فهي تعرف مداخله، وما يحب وما يكره، وما يفكر فيه وبه، وعلى هذا الأساس فشهادتهن معتبرة في حق الرجل ” الزوج ” بالخصوص، وكلهن قالوا في الرجل ما قد لا يعلمه هو من نفسه، وقد سرد القرآن الكريم شهادات صادقة للنساء في الرجال، فشهدت ابنة شعيب لموسى عليهما السلام بالقوة والأمانة، ونسوة يوسف ما علمهن عليه من سوء، وامرأة العزيز، راودت واتهمت يوسف وتمنعت سنين من قول الحق، حتى سابقت الزمن بتوبة نصوح، فحذفت عن يوسف كل تلاوين الخيانة، ونسجت على جبينه بياض العفة والوفاء لربه..

فالمرأة لوحة كاشفة لزوجها في كل شيء وفي لحظة صفائها تعترف لك بشخصيتك الحقيقة سواء في إيجابياتها أم في سلبياتها، ورضي الله عن النبيهة الصديقة أمنا عائشة التي طوت شخصية النبي ﷺ الأخلاقية ترفيعا وتلميعا قائلة: ” كان خلقه القرآن”..

عندما يفيض حب الرجل على المرأة تعكسه المرأة بجمالية فذة

تقول أم زرع عن زوجها: “زوجي أبو زرع فما أبو زرع”: ” ما” هنا وظفتها لعدم القدرة على الإحاطة العامة بخيرية أبي زرع،  قال تعالى: (الحاقة ما الحاقة) [سورة الحاقة 1]، حارت من أين تبدأ من خصاله، فالبادئ بالكرم هو، والبادئ بالخيرية هو، وعلى منوالك تنسج زوجتك، ” أَنَاسَ من حلي أذني” بمعنى أن حليها دائما متحرك في أذنها والأناس الحركة، وسمي الإنسان كذلك لحركته، “وملأ من شحم عَضُدَي” دليل على كرمه وجوده في الإنفاق عليها، وشحمة العضد ما والى المرفقين منة إلى جهة الكتف، فهي آخر ما يملأ من جسد الإنسان شحما، على أن أماكن جسمها الأخرى قد امتلأت، وكانت النساء قديما تمدحن بغلظ أجسادهن على عكس الرجال، “وبَجَّحَنِي فبجحت إلي نفسي” أي أنه يمدح كل أقوالها وأفعالها لا ينغص عليها لا فهما ولا حكما ولا قولا، حتى وصل بها الأمر إلى أن صدقت نفسها في أن كل ما تفعل هي، يجلب مدحا وتغنجا لها ولزوجها، ” وجدني في أهل غُنيمة بشق، فجعلني في أهل صَهِيلٍ وأَطِيطٍ، ودائس ومُنَق” وتحكي هنا عن وضاعتها في أهلها أهل أغينمة تصغير لغنم والعرب من عادتهم لا يهتمون بالغنم في الكسب، في شق أي في ناحية بعيدة، فانتشلها من هذه الوضاعة ليأخذها إلى هرمية التكسب بالصهيل أي الخيل المعبرة عن العزة والشرف، والأطيط: الإبل المفعمة بالعظمة والتقدير، ودائس: البقر التي تدوس سنابل الزرع ليخرج حبا منقى من قشوره لين العجن والأكل، وهو المنق، “فعنده أقول فلا أُقبَّح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنَّح” فأبو  زرع لا يرى لها إلا بعين الرضى ولا يسمع لها إلا بأذن التزيين، تقول ما تشاء فلا يقبح كلامها ويضحك لكلامها وكان ثقيلا، وتنام الليل فلا يوقظها نهرا، حتى تتصبح في استيقاظها متى شاءت، لكثرة ما عندها من الخدم، وتشرب من مشارب العصر حتى تمتلأ .

ذكرت عن أبي زرع المبادر إلى الخيرية والإكرام كُلَّ هذا الفيض، ويزداد الفيض بأن تتجاوز  في الحديث عن أبي زرع الحديثَ عن أهله، علما أن لقاء النساء كان محوره الرجال فقط، وليست أصولهم أو فروعهم، لكن قاعدة أبي زرع في الفعل قابلتها أم زرع بالوفاء والحب، فأحبت من باب أبي زرع أم أبي زرع، تقول: ” فما أم أبي زرع، عُكُومُها رَدَاح، وبيتُها فَسَاح” . أم أبي زرع ومن أين أبدأ خيرها أيضا، عكومها رداح: أي صناديق وخزائن أكسيتها وغطائها كبيرة، وبيتها فسيح شاسع، “وابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كَمَسَلِّ شَطْبَة، ويشبعه ذراع الْجَفْرَة”، والمعنى أن الإبن نحيف جدا أصابعه كأعواد الغصن الصغيرة، يشبعه ذراع صغيرة المعز، وكان الرجال كما أسلفت تمدح على النحافة.

 ” وبنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طَوْعُ أبيها، وطوع أمها، ومِلءُ كسائها، وغيظُ جارتها”: لينة لأبويها كثيرة اللحم والشحم، تُحسد من جيرانها لغلظها، ” جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تَبُثُّ حديثنا تبثيثا، ولا تنقِّث ميرتنا تنقيثا، ولا تملأ بيتنا تعشيشا”: وأحبت أم زرع بحب أبي زرع حتى جاريته، في حفظ أسرار البيت وصيانة أمواله والقيام على نظافته..

      إن إكرام الرجل للمرأة، يعزز المرأة ثقة بنفسها  وبزوجها، فتنعكس هذه الثقة إحسانا في المرأة في قلبها وقولها وفعلها، يتحول الفعل الثلاثي المختصة به “سكن” إلى مصادر السعادة بكل فروعها: سَكَن، سُكنى، سكينة، مَسْكن…

الحب عند الرجل ميزان العقل ولوعة الوجدان:

   قالت أم زرع: “خرج أبو زرع والأوطاب تُمْخَض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهْدين يلعبان من تحت خَصرها برمانتين، فطلقني ونكحها”: خرج أبو زرع من بيته أو من قريته، والحليب في القراب يُمخض لينتج زبدا، فلقي امرأة أخرى أجمل في نظره من الأولى لها ولدان يلعبان تحتها بثدييها، فأخذت بتلابيب قلبه، وجفون عينيه، وسكرته تسكيرا، فتزوجها وطلق أم زرع.

    الحب تفاعل قلبي قد لا يكون للإنسان فيه اختيار ، يتخيل للعاشق فيه تزويقا حرائريا يتحير العقل في نسقه ونسجه، وهو اندفاع داخلي مغلى مخضب بقوة الإجبار، يخرج من بين الصلب والترائب، يكسر بقوته حصون الرد، ويخرم أزمة المرابطة، ويصيب الرجل كما يصيب المرأة، فميلان أبي زرع كان أعدل من ميلان امرأة العزيز، إذ قالت أم زرع: ” طلقني وتزوجها”، فأبو زرع أحب صادقا، وأصدق عدلا، فلم يكن حبه نزوة عابرة ولا اشتهاء لحظيا، بل حبا من وراء الجدر، أما امرأة العزيز، فأول طريقها في حب يوسف عليه السلام كان نزوة شهوة بخلطة زواج من غير المحبوب، فتعسَّر مطلبها، وانكشف أوارها، وانزلق كيدها، فلم تتفطن لعظمة الحب إلا بعد تصفيته من لوثة الشهوة، فسارت تنقحه دعاءً، وتنشئه رجاءً، وتصلحه توبة، حتى تفتَّن حبا نورانيا خالصا، ليصل وصالها بمحبوبها العفيف المخبت يوسف عليه السلام، المحب لله على بقية خلقه..

   وهذا رسول الله ﷺ تزوج العديد من النساء رضي الله عنهن، وعدل بينهن فيما يملك من عدل خارجي في النفقة والمساكنة والاستمتاع..، ولكن الميلان القلبي لم يكن عليه الصلاة والسلام لينازعه، لأنه حب خارج عن إرادته، فقد روى النَّسائي بسنده عن النبي ﷺ أنه قال: (اللَّهمَّ هذا فِعْلي فيما أملِكُ، فلا تَلُمني فيما تملك ولا أملك)..

الشهادة بعد الطلاق تعكس الإحسان:

   ما نطقت به أم زرع  من أوصاف زوجها كان بعد طلاقها منه، وكانت تتلذذ في الحكي عنه وهي متزوجة بأخر  كريم غني لكنه لا يصل أبا زرع..

   تحكي عنه كل هذا الإحسان، وهو المبادر بالطلاق، ولم يكن هذا الطلاق ناتجا عن خصومة أو عداوة، أو حتى من تسبب منها فيه، وتحكي وهي ترفس أنانيتها وهي التي ترى تاريخا وضاءً وتاج شرف وجبلا شامخا في الحِنّية والعطاء والتصبر يتهاوى من بين أيديها لصالح أنثى أخرى، هذا ذوق رفيع وحس نفيس لا تقدر عليه ربات الخدور  إلا القليلات منهن..

   لكن طلاق اليوم للأسف كما زواجه، موجات من برَد فضح الأسرار  وكشف العيوب، وجروح لا تندمل وعداوات لا  تنقضي، يُصيب وَبَرها الآباء والأبناء والأسر والعائلات والحجر والشجر… فهلا كنا آباء الزرع وأمهات الزرع حقا؟!!

تقليد الآخرين في طرائق الحب والمودة بين الزوجين مطلوب شرعا

     يختم الحبيب ﷺ هذا الحديث بقوله: ” “كنت لك كأبي زرع لأم زرع” وفي زيادة للطبراني رحمه الله: ” إلا أن أبا زرع طلق، وأنا لا أطلق”، فتمثل رسول الله  ﷺ  وهو المكمل أخلاقا، كل أخلاق وصفات أبي زرع غير التطليق، وهنا رسالة لنا بتكريم المرأة، وإنزالها منزلة الشق الذي كمَّل آدم، خلق الله آدم أولا، لكنه لم يقم بفعل على أرض الحركة، حتى استوت منه ومعه حواء ليكون التوازن بدءً ووسطا ونهاية، الرَّجُل بعقله والمرأة بعاطفتها، هم بذكورته وهي بأنوثتها، هو بجمعه وهي بتفاصيلها، هو بخشونته وهي بليونتها، هو بعينيه وهي بأذنيها، هو بقوامته، وهي بإحسانها، هو  بغطائه وهي بفراشها، هو بعدله ولو أنه مستعصى وهي بتفهمها ولو أنه أمنية..

“وليس الذكر كالأنثى” ذكاة المساواة:

   التزاوج بين عمل المرأة وعمل الرجل واجب لكن الخصائص متحكمة، الشقائقية في الأحكام عادلة لكن بعضها استثناء، العدل مطلب لكن المساواة هراء، جلب المال مرغب لكن التربية أساس، قوامة الرجل شرع لكن الفَرْك ذنب، الرجل جدار  والمرأة زخرفة، الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، فسلام على كل النساء في العالمين..


[1]  ـ البخاري في (صحيح البخاري كتاب النكاح «باب: حسن المعاشرة مع الأهل»

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.