رحيلُ النهار مِنْ على هضبة “الشَّرْف”
رحيلُ النهار مِنْ على هضبة "الشَّرْف"/ عبد الهادي المهادي
رحيلُ النهار مِنْ على هضبة “الشَّرْف”
بقلم:عبد الهادي المهادي
مساءً، والشمس تميل رويدا نحو الغروب، مؤذنةً بنهاية يوم لاشيء يميّزه، صعدتُ هضبة “الشّرْف” التي تجعلك تُطلّ على مدينتي طنجة من الجهات الأربع. وكالعادة، وجدت رواد المكان لم يبرحوه منذ أن عرفتُه في الثمانينات؛ شباب يجمعهم “السّبسي” و”البارشي”، غير مبالين بمن قدم وبمن راح، وغير مبالين أيضا ـ بحكم العادة ـ بالمنظر الخَلاَّب الذي يسحرني كلّما حضرت إليه.
من جهة الشمال بحرٌ يوصلك أفقه إلى الضفة الأخرى للمتوسط، ولكن الميناء، الذي يوجد على مرمى نظر من هناك، لم يعد يثير المُشاهِد، لأنّ السُّفن توقّفت ـ تقريبا ـ عن زيارته، بعد أن نُقلت الحركة الملاحية إلى الميناء المتوسّطي البعيد عن المدينة في اتجاه الشرق. كان صوت بوق السّفن، معلنا وصولها، يُعَدّ حدثا يستحقّ الإنصات والمتابعة رغم تكرّره، تماما كمرور القطار بجانبه، ويَعِدُ بالخير والبركة.
لم تعد جهة الشمال ما يفتنني في إطلالتي من هضبة “الشّرف” بل التأمّل ناحية الغرب قبيل الغروب وأثناءه وبُعَيْدَه. وأكثر ما يبهرني عناصر ثلاثة: تلك “الصّينيةّ” النُّحاسية المتوهّجة بين يدي انطفاءتها. وألوان السّماء الصافية في حزنها، المشتعلة حنينا إلى نهار رحل دون أن يترك وعدا بالرّجوع. وتحوّل المدينة فجأة كـمجمر مُتّقد بعد أن توهّجت مصابيح شوارعها وأزقتها.
ولكن الذي يَصْرَعُني وأنا هناك حدّ اختلاط الفرح بالبكاء، لحظة ارتفاع أذان صلاة المغرب، في ظلّ كل هذه الأجواء؛ ففي وقت واحد ـ قصير ـ تضجّ المدينة بالتكبير. تختلط أصوات الشباب المفعمة بالحيوية واستعراض العنفوان بأصوات الشيوخ المعتّقة الخبيرة التي ما عادت ترغب في تزويق ندائها، لأنّ الحقيقة التي يبشّرون بها لا تحتاج إلى كثير زخرفة كما غدوا يعتقدون. كنتُ شاهدا ـ اليوم ـ على سمفونية من الأنغام الربانية التي لا يشبهها شيء، ولا يقدر أن يتشبّه بها شيء. هل هذا ما ينعتونه بالتّجلي المزدوج الذي يتشابك فيه الجمال بالجلال؟ !
“رحل النهار، ها إنّه انطفأت ذُبالته على أفق توهّج دون نار” ـ كما عبّر السّيّاب ـ وجلستُ في وجوم لاشيء أفعله غير الذّهول والتّسبيح.