ذاكرة برائحة الزعتر
هل يستطيع الذكاء الاصطناعي برمجتها ؟
بقلم: مينة كلخ
بعد أن حضرنا حفل افتتاح المعرض السنوي الذي يقُام في مدرسة أولادي، انتقلنا لنتجول في مُختلف أروقة المعرض حيث يُقدم تلاميذ المستوى السادس ابتدائي إبداعاتهم و إنجازاتهم.
كان المشروع الأول الذي نزوره يتحدث عن الإنسان الآلي. بدأت أتمعن كل ما تعرضه هذه المجموعة التي تضم إبني، فكان من ضمن ما يعرضه الفريق الصغير: آلة قادرة على تحديد اللون الذي يختاره المرء ثم تحوله إلى شكل حركي مرئي.
في الجانب الآخر كُتبت على لوحة بعض التوضيحات حول الذكاء الاصطناعي. فجذبني الموضوع لأتبادل أطراف الحديث مع الأطفال وبعض الحضور حول الذكاء الاصطناعي. حديث ليس غريبا علي تماما، فقد سبق أن استخدمت تقنية الذكاء الاصطناعي كوسيلة للبحث في رسالة تخرجي من ماجستير الهندسة في كندا.
أحسست بنوع من الحماس ورغبة في النقاش على طريق العودة إلى المنزل رفقة زوجي وأولادي. علقتُ قائلة حول هذا التطور العظيم الذي حققه الذكاء الاصطناعي: ربما يُعوض الذكاء الاصطناعي الأطباء في المُستقبل فهو له القدرة على التشخيص و تحليل المعلومات و تاريخ المريض و تاريخ عائلته بشكل أدق، وبالتالي يستطيع تحديد الإجراءات المواتية و وصف الدواء المناسب للمريض، خصوصًا أن طريقة الاشتغال لكثير من الأطباء أصبحت شبه آلية في التعامل مع المريض، فلا بأس أن تتقاسم معه الآلة عمله.
لم يأت هذا التعليق من فراغ، فقد كنت ما أزال تحت تأثير الساعات الطويلة التي قضيتها في المستعجلات أنتظر مراجعة الطبيب ثم غادرت ولم أستطع رؤيته، لأنه يقوم بمُناوبة ليلية تتطلب العمل بالأولويات: من يحتاجون إلى تدخل عاجل وفوري أولا. ومواعيد زيارة الأطباء ككل تتطلب في أغلبها وقتًا طويلًا، فلربما يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُساعد بالكثير.
انتهى طريق العودة، وما إن دخلنا حتى هممت بتحضير عشاء سريع لأولادي. و اشتهيت أن أحضر حليبا بالزعتر الجبلي على طريقة جدتي رحمها الله، جدتي ‘حادة’ تُوفيت منذ ثلاثة عقود، من أصول أمازيغية، لكنها كَبُرت و ترعرعت في منطقة الشاوية ،مسقط رأس جدي رحمه الله. كنت لا أزال طفلة صغيرة حين وفاتها، بالكاد أتذكر ملامحها، لكن طوال هذه السنين لم أنس رائحة الحليب بالزعتر التي كانت تُحضِّره لنا.
عندما أشم رائحته، أرى وقفة جدتي و حركاتها، يحضر أمامي مشهد تجمعنا في تلك الغرفة الصغيرة البسيطة في دار جدتي، تمثل أمامي تلك الكوؤس الزجاجية الصغيرة التي تسكب فيها الحليب لتُقدمه لنا، تلك الطاولة المستديرة، رائحة الغرفة التي تمتزج برائحة مدخرات البيت و من يسكنه، هذا المشهد يحضر بمشاعره أيضا، وبما كُنت أحسه حينها، فيتمالكني إحساس جميل ولدته لدي هذه الذكرى.
جلست شبه مستلقية بعد انتهائي من الانشغال في المطبخ مُعلنة نهاية يومي، اختتمته باحتساء كوب الحليب المُعطر برائحة الزعتر، فدّقّ من جديد الذكاء الاصطناعي باب تفكيري: هل هو قادر على أن يُخزن ذكرياتي المضمخة برائحة الزعتر؟ هل يستطيع برمجة حواسي؟ هل يستطيع أن يُبرمج الشعور الذي أحسه و أنا أشم هذه الرائحة ؟ ثم رجعت لأقول: إن ما حققه الذكاء الاصطناعي مُبهر جدًا، لكنه يبقى آليا مُفرغا من الإحساس !
تسارعت الأفكار في ذهني وتزاحمت الأسئلة لكن خلايا دماغي غدت متعبة فخاطبتني متوسلة : دعيني أستلقي وأخلد للنوم فقد عملت بما فيه الكفاية هذا اليوم وأحتاج بدوري إلى الراحة !
« باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصَّالحين »